في نهاية العام 2009 كان صدور ألبوم (تصدق بمين) للبنانية «إليسا» ولا أخفيكم سرا، حيث إنني ممن ينتظرون ألبوماتها بفارغ الصبر، وذلك يرجع إلي حجم الثقة المتبادلة ما بين ما انتظره منها وما بين ما تمنحه لي، لقد عودتني «إليسا» علي الجيد، فمنذ أن قدمت ألبوم (عايشالك)، وأنا قد سلمت نفسي لذكائها في اختياراتها، إضافة إلي أهم سمة لدي «إليسا» وهي الأداء، فصحيح أنها ليست صاحبة صوت عظيم وفارق، إلا أنها تمتلك إحساساً يميزها بين مطربات جيلها، يبدأ ألبوم (تصدق بمين) بأغنية تحمل نفس الاسم والمفترض أنها تعبر عن الألبوم ككل، الأغنية كتبها الشاعر «نادر عبدالله»، ولحنها «وليد سعد»، وأود أن أشير إلي أهمية هذين الاسمين، والتي لم تضع «إليسا» أي تجربة غنائية دونهما، يحاول «نادر عبدالله»، من خلال كلمات أغنية (تصدق بمين)، أن يلقي الضوء علي تجربة عاطفية يمثلها بطلان، الأول يلعب دور الراوي في مواجهة المتلقين، بينما يختار البطل الثاني أن يكون مجرد (مروي عنه) في الظل أي الكواليس، يعتمد الأول في روايته علي جملة من كلمتين (تصدق بمين)، وهي من الجمل القريبة إلي الحس الشعبي، إذ تستخدم في كثير من المواقف بين الأشخاص، وهي دالة علي (الحلف) من (يحلف) والنص في مدخله دال علي تاليه -أي ما بعد المدخل - فما أن يستمع شخص إلي (تصدق بمين)، فلابد أن النتيجة ستنطوي علي حقيقة جارية، تري ما هي الحقيقة التي أراد الراوي أن يؤكدها في النص،لقد اختار الراوي أن يدلل علي معاناته في غياب بطله المنشود أو محبوبه المنتظر (تصدق بمين/ بعدنا ويادوب ماعداش يومين/ وجيت لك قوام/ لقيتك واحشني وحشة سنين)، لقد اكتشف الطرف الأول في الحكاية مدي صعوبة (البعد) وأثره عليه، لذا لم يحتمل أن يكمل أو يتمادي في بعده (ويادوب ماعداش يومين/ وجيت لك قوام/ لقيتك واحشني وحشة سنين)، وتدلل تلك الجمل علي مدي ضخامة شعور (الأول) بالبعد لدرجة جعلته يري في (يومين) ما يساوي (وحشة سنين)، ويتمادي الراوي في وصف حالته التي دخلت في اللا وعي الحسي إذ يري (تصدق بمين/ أنا وقلبي كناش دريانين/منين جينا/ ولا فين روحنا/ ولا، احنا شوفنا مين)، حالة من التماهي في ذات الآخر دون المبالاة بالذات الشاعرة والواقعة تحت تأثير فرضته طبيعة الحب ذاتها، إلا أن هذا لا يمنع الطرف النائب عن الحكاية أن يؤكد عودة هذا الآخر، حيث لا سبيل من الفرار، إذ أصبح اللقاء قدر محتوم (فيه ميت ألف حاجة مابينا/ مش حاجة أو حاجتين/ ولو ننسي بعض أنا وانت/ من بعض نروح فين)، لقد حسمت المسألة من حيث السبب والنتيجة، وذلك علي مستوي النص الشعري، كذلك حسم «وليد سعد» القضية في اختياره للحن بسيط يبدأ من أسفل في نعومة واضحة عبر جملة قصيرة، تتابعت خلفها الجمل اللحنية في شكل «سلمي» تدريجي، أقرب إلي التعبير، وكعادة «وليد» الربط بين الجملة الشعرية واللحنية، فيختطف (تصدق بمين) دليل علي كونها شيئاً قاطعاً، فيرميها ما بين «القطع» و«المد» ثم يجعل منها جملة التوقيع (تصدق ب م ي...ن، مع التأكد، واللحن من الألحان البسيطة التي تحتاج إلي صياغة موسيقية خاصة جاءت رؤية تميم الموزع الموسيقي مطابقة لها إلا في حالات غلب الايقاع عليها دون ضرورة ملحة. عا بالي حبيبي إن أول شيءلفت انتباهي في أغنية (عا بالي حبيبي) تلك البساطة الساحرة التي كتب بها الشاعر «فارس إسكندر»، لقد نجح أن يتلمس المعاني لمساً حقيقياً، فالنص يقدم لنا (حبيبه) ترسم حلما بسيطا وإنسانيا (عا بالي حبيبي/ أغمرك ما اتركك/ فمنذ البداية (عابالي حبيبي)، وأود أن أشير إلي أن (عا بالي) هنا تدل علي (القصد - النية)، فالراوي هنا ينوي أن ينتزع من يحب انتزاعا، فيختطفه بدعوي الحب دون أن يتركه، حتي لو وصل الأمر إلي الأسر أو السجن (عا بالي حبيبي/ أغمرك ما أتركك/ اسرقك ما راجعك/ اجلسك ما اطلعك من قلبي ولا يوم)، فنحن هنا أمام حالة سطو عاطفي، فالبطل المحب يتساوي مع الثوري في لغته نعم، فاللغة هنا ليست لغةحلم بل لغة غليان (اخطفلك نظراتك/ ضحكاتك/ حركاتك/ علقن بغرفتي/ نيمن ع فرشتي)- فلا دفاع أمام حب من هذا النوع، فالمحب هنا مدفوع بواقع الانجذاب الذي يصل إلي حد الهوس، وقد علق هذا المحب أمانه الشخصي مشروطا بسيطرته علي هذا الآخر المراد الإشارة إليه عبر جريمة منظمة (اخطفلك نظراتك/ حركاتك/ إلي آخره) من ثم (تحلي بعيني النوم) والمقصود (سوف يحلي بعيني النوم) إذ يري المحب هنا شرط النوم في حدوث نيته بالتحفظ علي من يحب، لا شك أننا أمام حالة جديدة وذات معانٍ طازجة وتحتوي علي شعرية خاصة، قد تكتمل هذه الشعرية في تحولها من التوحش في الأداء إلي تلك البساطة السحرية (ليلة لألبسلك الأبيض/ واصير ملكك والدني تشهد)، إن المفاجأة هنا في حساسية الشاعر في تصوير (عرس) دون اللجؤ إلي الصوت العالي، بل اختار رموزه من واقع الحالة الاجتماعية(البسلك الأبيض/ الدني تشهد) - أي أن حلم البطل الأول في ليلة العرس المنتظرة لدي كل (أنثي)، إلا أنه ليس من الضروري أن تطرح مفردات مباشرة كالزواج، لقد جاء النص ليؤكد هذا المعني (عا بالي تكملني واسمك تحملني/ بقلبك تخبيني/ من الدني تحميني) -فنحن أمام أغنية (فرح) إلا أنها تختلف عن الأغنيات الحالية، نظرا لاختلاف ايقاعها مفرداتها، وياليت كل أغنيات الأفراح بهذا الأداء، والذي أكده الملحن «سليم سلامة»، في صياغته للنص، فجأة تذكرت عبر هذااللحن لحناً آخر قدمته «إيمان البحر درويش»، هو لحن (ضميني وانسي الدنيا) للملحن «إبراهيم نصير»، لقد جاء لحن «سليم سلامة» بنفس الرقة المتناهية، كما لو كان رقصة حالمة علي شاطئ بحيرة صغيرة، فأغلب الجمل جاءت في ايقاع هادئ وبسيط وإنساني، بعيدا عن الصخب المعتاد في مثل هذا النوع من الأغنيات، وقد وعي الموزع الموسيقي «كلود شلهوب» روح اللحن، وقدم رؤية موسيقية مطابقة لحركة اللحن في موضوعية تحسب له. في شيء انكسر علي الفور تذكرت أغنية (انكسر جوانا شيء) لعلي الحجار عند سماعي أغنية (في شيء انكسر) ل«إليسا»، ضمن ألبومها (تصدق بمين)، الأولي كتبها «بهاء الدين محمد»، وكانت من بداياته القوية، ولحنها الراحل الموهوب «رياض الهمشري» كذلك أغنية (في شيء انكسر) من كلمات وألحان موهوب آخر حقيقي هو «مروان خوري» وجميعنا يعرف أن «خوري» من الأصوات المهمة في (بيروت) إضافة إلي ما أشرت إليه من كونه شاعراً وملحناً، ولقد استمعت إلي تجارب فريدة ل«مروان خوري» اتذكر منها أغنيته الشهيرة (كل القصايد) وكذلك أغنية (قصر الشوق)، إضافة إلي ألحانه المميزة كلحن أغنية (اتطلع في) للمطربة «كارول سماحة»، بخلاف ألحانه مع «إليسا» ومنها (بتمون) من ألبوم سابق لها، وفي أغنية (في شيء انكسر) يتعرض «مروان خوري» بوصفه كاتب الأغنية لحالةمن الجمود قد أصابت إحدي تجارب الحب إصابة مباشرة، ما دفع أحد الطرفين أن يشعر بانكسار شيء لم ينشغل بذكره/ بقدر التركيز علي حدوثه الفعلي، (بيني أنا وبينك خلاص في شيء انكسر/ ما بسالك مين انهزم مين انتصر/ همي أنا بالليل ينساني الألم/ دوب مع النسيان لحظات الندم/ لمين بشكي هم قلبي اللي اتظلم/ صعب النغم ما يحن عا غياب الوتر) وهنا يلجأ الشاعر إلي سرد النتيجة دون الإشارة إلي المقدمات، وقد يري أن هذه المقدمات قد تدور في الزمن الضعيف، أي أن انشغاله بالنتيجة يعد هو الجاذب الأقوي، فنحن أمام علاقة يابسة بلا روح. وحافلة ببرود أقرب إلي ليالي الشتاء الباردة، لذا أصبح أمام الطرف الأول بحسب ظهوره في النص أن يبحث في شكواه الخاصة وهدفه الذي تحول إلي أمنية من فرط صعوبته (همي أنا بالليل ينساني الألم/ دوب مع النسيان لحظات الندم) فنحن أمام نص يتلمس مفرداته ويتحسسها، وهذا ليس غريبا علي «مروان خوري» الذي قدم لحنا (قاعدا) و(بطيئا) في مقدمته، وذلك يعكس حالة البرود المشار إليها في النص، فالحركة العامة في النص يسيطر عليها ايقاع (المتغير) إلا أن هذا التغير لا يكون جذريا، فقط يقطع الحالة البطيئة التي صدرها اللحن بعض الجمل التحريضية والثابتة في (لو باقي عندي منك شوية أمل) وحتي (يا محلا الزعل) والذي يتركها «مروان» معلقة ليعقبها التسليم للمذهب (بيني وبينك في شيء انكسر)، إلي درجة كبيرة جاء لحن «مروان»، مطابقاً لنصه الشعري، ومثاليا، ويخلو من أي جمل صناعية أو مفتعلة. مصدومة كانت دهشتي كبيرة حين استمعت إلي أغنية (مصدومة) لكاتبها «نادر عبدالله» الأغنية لحنها «وليد سعد»، وكان مصدر دهشني (النص) المكتوب، لقد تطرق «نادر عبدالله» إلي حالة نادرا ما يتم نقاشها في حياتنا الاجتماعية،ما بالنا في الغناء، تلك الحالة ترتبط بالعلاقات التي تنتهي إلي (مبررات وهمية)، قد تكون هذه المبررات من المسكوت عنها في الغناء، لقد استخدم «نادر عبدالله» مفردات جديدة علي قاموس الأغنية المصرية، إلا أنها ليست جديدة في مجتمعنا، تأتي أغنية (مصدومة) لتكشف عن نموذج (أنثي) تكتشف خدعتها فيمن تحب لكونه راح يشهر بها في مسألة شديدة الحساسية وكان ذلك مصدر صدمتها، (بيقول في حقي كلام كتير مش حلو ليه/ بيقول ماليش لازمة في حياته م النهاردة/ وعشان ماهوش عارف يقول بغلط في إيه/ بيقول تعب مني عشان مشاعري باردة)، وفي تقديري أنه من السهل أن تصارح أي امرأة بحقيقة قبحها، إلا أنه من الصعب مواجهتها أو رميها بالبرود، لأنها مسألة تخص وجودها الشخصي، وقد لعب «نادر» علي وتر حساس، ومما يؤكد هذه الحقيقة، ومدي استيعاب صعوبتها لجأ الشاعر إلي فعل الصدمة، تلك الصدمة المؤدية إلي الخرس، (مصدومة بجد ومش بانطق ولا عايزه أرد/ مصدومة عشان شكله في عيني/ بقي مش ولابد) إن النص يقتحم أبواباً مغلقة، ولقد وصل «وليد سعد» بالنص عبر لحنه إلي المنطقة الأكثر تعبيرا عن «حاله»، فاللحن ينقسم إلي لحنينٍ، الأول يتبع طريق «الشكوي» عبر جملة تتخذ من «القرار» متكئا، إلا أنه سرعان ما يتغير إلي اللحن الثاني، والذي يؤكد فعل الصدمة، إذ يصعد بالجملة اللحنية إلي أعلي، مع تعميق «التكة» الواضحة في (مصدومة) والذي يلقيها ما بين (الأعلي) و(الأسفل) في وقت واحد، لقد جاء اللحن معبرا عن معني الصدمة بكل تفاصيله وهذا مكسب جديد استطاع «وليد سعد» أن يحققه. أداء إليسا كان بودي أن أتحدث عن أغنيات كثيرة في ألبوم «إليسا»، إلا أن المسألة سوف تطول، وقد احتاج إلي مساحة صفحتين كاملتين لذا اخترت أن اكتب عن بعض الأغاني، دون تجاهل لباقي الأغنيات التي أحببتها في الألبوم، وعن أداء «إليسا» فقد يختلف الكثيرون حول تفسير (الأنوثة)، إلا أن هناك اتفاقاً ما حول أنوثة صوت وأداء اللبنانية «إليسا»، فمنذ صدور ألبومها الأول (عايشالك) وهي تحتل مكاناً خاصة لدي ما اصطلح علي تسميتهم بالرومانسيته، والمدهش في الأمر أن هذه المكانة قد تكونت في زمن ليس بالكثير، فهي تتميز بأداء ابن جماليات أخري في الغناء، بالرغم من أنها ليست من الأصوات الكبيرة أو الأصوات التطريبية، فهي ابنة جماليات مختلفة وزمن مختلف.