مساء الجمعة 16 نوفمبر 2011 اشتعلت نيران الغضب في المجمع العلمي المصري الذي أنشأته الحملة الفرنسية بعد أكثر من مائتي عام من تشييده والذي تم إنشائه بقرار من قائدها نابليون بونابرت أتت النار علي كل مقتنياته وعلي عشرات الآلاف من المخطوطات والكتب والوثائق. يقع هذا المبني الأثري في نهاية شارع القصر العيني، أكثر شوارع القاهرة عراقة وأصالة، وهو الشارع الوحيد في مدينة القاهرة والذي يحمل عبق الحضارة المصرية التي حاول إحياءها الخديو إسماعيل، انه الشاهد الوحيد علي نهضة مصرية خالصة، كادت ان تنبعث في مصر بعد رقاد طويل. المحزن أن احتراق المجمع العلمي جاء بعد محاولة ثورية للاحياء العلمي والإداري والنهوض بمصر مرة ثانية في ثورة يناير 2011، ولا نبالغ إذا قلنا انها أعظم الثورات المصرية علي الإطلاق، إنها الثورة الوحيد التي قامت بها الجماهير المصرية مدفوعة برغبة عارمة في التغيير، والتحول نحو الانطلاق والانضمام إلي مصاف الدول الكبري. يطل مبني المجمع العلمي علي ميدان التحرير الذي شهد اشتباكات بين ألوف المحتجين وقوات الجيش، وذلك بعد قيام قوات الشرطة العسكرية بفض اعتصام مئات النشطاء في شارع مجلس الشعب الذي يوجد فيه مقرا مجلس الوزراء ومجلس الشعب. قبل ذلك كانت عيني تقع علي المجمع العلمي كلما مررت من شارع القصر العيني في زياراتي المتكررة للقاهرة، ربما لم يلفت نظري، لأن تلك المنطقة الموجود فيها هذا المبني العريق ليست منطقة توقف بالنسبة لزوار القاهرة، فهي مكتظة بحركة السيارات وتقاطع طرق، وهذا ما يجعل المرء لا يلتفت للطريق إلا للنجاة بنفسه، والعبور من المفترق سواء كان متجها ناحية التحرير أو ناحية القصر العيني. المبني عريق يشهد علي حضارة البنائين العظام من المصريين، لقد اعتبرت نفسي مقصرا لأنني لم أدخل هذا المبني الذي تكشفت لي أهميته بعد احتراقه، لم أكن أعي من أمره شيئا، ولم أعرف أن به كل تلك الكنوز التي تكلموا عنها، ربما لأن دراستي وعملي لم يرتبطا قط به، غير أنني كمثقف أعترف انه فاتني الكثير لأنني لم أدخل هذا المبني الذي احترق. وهذا ما دفعني للقراءة عن هذا المعهد في ثلاثة كتب هي : وصف مصر الذي ألفه علماء الحملة الفرنسية، وكتاب شامبليون في مصر رسائل ومذكرات، وكتاب شامبليون حياة من نور تأليف جان لاكتوير. بونابرت في 22 أغسطس 1798 وبعد بضعة أسابيع من دخوله القاهرة أسس نابليون بونابرت " معهد مصر " فيما بعد أصبح اسمه المجمع العلمي. احتفظ نابليون لنفسه بكرسي في قسم الرياضيات. إلي جانب ياوره المقرب منه جوزيف فيلكوفسكي، والذي كان يجيد اللغة العربية، وكان بولنديا ولكنه انضوي تحت راية الحملة الفرنسية. أسس نابليون بونابرت هذا المعهد لكي يقدم له وللحملة الفرنسية ثلاث وظائف أساسية : الوظيفة الأولي لها غرض أساسي لتدعيم الفكرة الاستعمارية للحملة الفرنسية، وكانت تحت إشراف المفكر والمهندس الفرنسي كونتي، وكانت تستهدف في المقام الأول الأعمال الفورية التي يمكن أن تلبي احتياجات الجيش من المعدات الميكانيكية والحربية، وأعمال أخري تخدم النواحي العسكرية أيضا، منها صيانة الترع، وإنشاء معابر عليها، إنشاء الورش وتحسين الري، كما كانت هناك مطبعتان جاءت بهما الحملة الفرنسية. إحداهما قامت بنشر صحيفة " كوربية دوليجيبت " الفرنسية تحت إدارة فورييه، وكان إلي جانب ذلك وظيفته الأساسية كسكرتير عام المعهد المصري كما كان يسمي. وصحيفة ثانية هي لاديكاد إيجبسيان تحت إشراف تاليان. الوظيفة الثانية. وكانت تتولاها لجنة من كبار علماء الحملة الفرنسية، وكانت تستهدف تقييم الحالة مصر المعاصرة، تقييما علميا من جميع النواحي، وكان من نتائج أعمال تلك اللجنة كتاب «وصف مصر» الذي قيل انه احترق أثناء مظاهرات نوفمبر 2011 الماضي، وقيل أيضا انه لا توجد من هذا الكتاب إلا نسخة واحدة نادرة هي التي احترقت أثناء المظاهرات، فيما بعد تبين أن هناك نسخا عديدة من هذا الكتاب، في أماكن متعددة، منها مكتبة الإسكندرية، جامعة القاهرة، ومكتبة قصر عابدين، مكتبة الأزهر الشريف، نسخ متعددة في دار الكتب، مما يعكس عدم التعاون العلمي بين المؤسسات العلمية في مصر، وعدم دقة المعلومات المتاحة عن تلك الجهات فضلا عن الجهل الفاضح بمحتويات تلك الجهات. الوظيفة الثالثة، وهي إعادة اكتشاف مصر القديمة، فقد كان بونابرت في تلك الفترة واقعا تحت تأثير العقيدة الإسلامية، ومن تأثير الدين الإسلامي عليه أعلن أنه جاء لحماية الدين الإسلامي والمسلمين، وأشاع البعض أنه اعتنق الإسلام، إلا أن ذلك كان مراهنة منه علي تأييد المسلمين له. كانت هناك لجنة تتولي وظيفة اكتشاف الحضارة المصرية القديمة، وهي مكونة من عالم المساحة فيلاردو تيرج، وعالم المساحة والطبوغرافيا دوبوا إيميه، وجومار عالم الجغرافيا، ومالوس عالم الأحياء، ودولومير عالم الأحياء أيضا، وجان جوزيف مارسيل عالم اللغويات، والرسام دوتارتر. غير أن أهم أعمال المعهد المصري أو المجمع العلمي في مصر إبان الحملة الفرنسية هو ما أعلن عنه يوم 19 يوليه 1799 من اكتشافات مهمة في مدينة رشيد، وقتها أعلن عن اكتشاف مخطوطات قد تكون ذات نفع كبير، وبعد شهر واحد كتبت صحيفة كوربية دوليجيبت أن تلك الاكتشافات قد تفيد المهتمين باللغة الهيروغليفية، وقالت الصحيفة إن المواطن دوتبول الذي يقوم بأعمال تدعيم قلعة رشيد القديمة علي الضفة الغربية لنهر النيل، قد عثر علي حجر من الجرانيت الأسود الرائع، حبيباته رفيعة للغاية، صلب جدا، أحد وجهيه مصقول صقلا ناعما، وتوجد عليه ثلاث مخطوطات بلغات مختلفة، وتلك المخطوطات منحوتة في ثلاث مجموعات من الخطوط المتوازية، المجموعة العليا الأولي مكتوبة باللغة الهيروغليفية، والثانية مكتوبة بلغة يعتقد انها السريانية، والثالثة باللغة اليونانية، وقد تمت ترجمة الجزء الثالث المكتوب باليونانية بأوامر من الجنرال مينو، والذي كان حاكما لرشيد. فيما بعد وأثناء انسحاب الفرنسيين من مصر في أغسطس 1801 تحت الإشراف البريطاني أصر القائد الإنجليزي علي الاحتفاظ بهذا الحجر الذي سمي حجر رشيد، ليكون ملكا لبريطانيا باعتبارها الطرف المنتصر، وعلي ذلك فقد استولي البريطانيون علي الحجر الثمين المكتشف في مدينة رشيد، رغم أنف الجنرال مينو وعلمائه الذين تشبثوا بهذا الحجر لكن دون جدوي، واستقر الحجر في المتحف البريطاني في لندن، أسموه أيضا اللوح المقدس لعلم المصريات. فيما بعد استطاع الفرنسي جان فرانسوا شامبليون الحصول علي نسخة دقيقة من مخطوطات الحجر، ومن تلك المخطوطات ومقارنة اللغات المكتوبة علي الحجر تمكن شامبليون من فك رموز اللغة الهيروغليفية. وصف مصر أما بخصوص كتاب وصف مصر. فإن الفضل الرئيسي فيه يرجع الي الفرنسي فيفان دينون. فقد كان رساما وسافر مع الجنرال ديزييه الي الصعيد متعقبا المماليك، وعندما عاد من الصعيد إلي القاهرة في يوليه 1789استقبله بونابرات علي الفور، وأخذ دينون يحكي لبونابرت عن سحر ما رآه من الآثار المصرية القديمة، وكانت حكاياته مدعمة برسومه، وعلي الفور أصدر بونابرت مرسوما بإنشاء لجنتين يرأس إحداهما كوستاز، والثانية فورييه وكلفهما نابليون بالسفر إلي الصعيد لدراسة آثار مصر القديمة في الصعيد دراسة علمية دقيقة ونسخها ورسمها بكل دقة. وبعد أن رحل الجيش الفرنسي بعام واحد ظهر في باريس كتاب بعنوان "رحلة إلي شمال وصعيد مصر إبان حملة الجنرال بونابرت بقلم فيفان دينون»، وهو عبارة عن جزأين: الأول تفاصيل الرحلة والثاني يحتوي علي اللوحات المرسومة. أهدي دينون الطبعة الأولي إلي الجنرال بونابرت، وبفضل هذا الإهداء أصبح دينون القنصل الأول. وقد فاق الكتاب أعلي معدلات التوزيع في باريس ولم يتفوق عليه سوي كتاب " عبقرية المسيح لشاتوبريان. وقد أصبح هذا الكتاب النواة الأولي لكتاب وصف مصر، فبعد عشرين عاما من مغادرة الحملة الفرنسية لمصر، ظهر كتاب وصف مصر، بشكله المعروف، وهو عبارة عن تسعة مجلدات كاملة من النصوص من القطع الكامل، واحد عشر مجلدا من اللوحات، وكان العنوان الأصلي لكتاب وصف مصر " وصف أو مجموعة الملاحظات والأبحاث التي تم إجراؤها في مصر إبان حملة الجيش الفرنسي ". وقد تم نشر الكتاب بأوامر من جلالة الإمبراطور نابليون. وقد نجح كتاب وصف في خلق جو عام شكّل ولعا فرنسيا بمصر وحضارتها وآثارها، ليس في فرنسا وحدها، لكن في كل دول أوروبا.