صدر حديثا عن دار الكتب والوثائق القومية كتاب «نهضة الكتابة التاريخية في مصر» للدكتور أحمد زكريا الشلق، والكتاب محاولة رصد تاريخ الكتابة التاريخية في مصر من الحوليات إلي التاريخ العلمي . ميراث الماضي الفصل الأول من الكتاب بعنوان "ميراث الماضي ونهضة الكتابة التاريخية " وفيه حاول المؤلف تقديم صورة عامة لوضع الكتابة التاريخية في مصر خلال فترة الحكم العثماني منذ بداية القرن الساس عشر حتي أواخر القرن الثامن عشر، ثم مرحلة الجبرتي ومدرسته في بدايات القرن التاسع عشر، فلقد بدأت حركة كتابة التاريخ في مصر الإسلامية بابن عبد الحكم صاحب كتاب "فتوح مصر والاندلس " حتي إذا ما جاء القرن الخامس عشر الميلادي بلغت الحركة أوجها من حيث عدد المؤرخين العظام الذين ظهروا مثل ابن خلدون، المقريزي؛ ابن حجر وابن العيني .... إلخ وفي العصر العثماني ضعفت حركة الكتابة التاريخية نسبيا، نتيجة سيادة الكتابة باللغة التركية، ولقد حاول المؤرخ المصري الكبير الدكتور محمد أنيس تصنيف مدارس كتابة التاريخ المصري في العصر العثماني إلي ثلاثة أقسام هي:- 1- مدرسة المؤرخين من العلماء الذين كانوا متأثرين بمدرسة التاريخ الإسلامي، وخير من يمثلهم في القرن العاشر الهجري ابن اياس، وفي القرن الحادي عشر الاسحاقي، وفي القرن الثاني عشر الجبرتي وعبد الله الشرقاوي 2- مدرسة التراجم :- وبرز منها العيني في القرن الحادي عشر، والجبرتي في القرن الثاني عشر 3- مدرسة الأجناد :- وهي المدرسة التي قدمت مادة تاريخية مهمة رغم افتقارها إلي خطة في البحث والكتابة، ويمثلها ابن زنبل الرمال في القرن العاشر الهجري ثم الدمرداش كتخدا عزبان ومصطفي ابن الحاج ابراهيم في القرن الحادي عشر . وجاء الجبرتي ( 1754- 1825) ليمثل مرحلة تحول مهمة في تاريخ الكتابة التاريخية، ولقد بدأت الخطوة الأولي لكتابة كتابه المهم "عجائب الآثار " عندما كلفه أستاذه محمد مرتضي الزبيدي أن يعاونه في الترجمة لأعلام المائة سنة المنصرمة من مصريين وحجازيين، وعندما جاءت الحملة الفرنسية علي مصر دون أعمالها ومنشوراتها في كراسات، كما تردد علي بعض منشآتها وأقام بعض الصلات مع عملائها، وصار عضوا في الديوان في عهد "مينو" وعندما خرجت الحملة من مصر، رأي مشاركة المصريين أفراحهم، فوضع كتاب "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس " ويذكر الجبرتي في مقدمة الكتاب أن صديقه الشيخ حسن العطار (1766- 1835) قد شاركه في تأليف هذا الكتاب وعن أسباب تميز الجبرتي في الكتابة التاريخية يعدد الأستاذ الدكتور محمد أنيس الاسباب في النقاط التالية:- 1- دقته في استقصاء الحوادث وتحفظه في ذكرها 2- موضوعيته، فهو يكتب للحقيقة والتاريخ، وليس لخدمة ذي جاه كبير 3- كتاباته تفيض بالحيوية والانفعال بالأحداث، فهو يضع يديه علي نبض الحياة ويعيش الجو الحقيقي لمصر وللعصر . ثم جاء القرن التاسع عشر الميلادي، وظهر أعلام كبار صنعوا مدرسة حديثة واضحة الملامح في الكتابة التاريخية في مصر نذكر منهم رفاعة الطهطاوي (1801- 1873)، علي مبارك (1823- 1893)، أمين سامي (1857- 1941) ميخائيل شاروبيم (1861- 1920) واسماعيل سرهنك (1854- 1924) .... إلخ. تقويم النيل الفصل الثاني من الكتاب بعنوان "أمين سامي باشا والتأريخ لمصر بتقويم النيل " وأمين سامي (1857- 1941)نشر كتابه الشهير "تقويم النيل " بين عامي (1915- 1936) ويقع في مجلدات ستة . اشتمل المجلد الاول علي مقدمة طويلة أوضح فيها أسس مشروعه الطموح وتحدث عن جهوده وأهدافه من العمل، ويتناول هذا الجزء أيضا الفترة التاريخية الممتدة من الفتح الإسلامي لمصر، وتعاقب حكم ولاة الدول الإسلامية عليها حتي نهاية حكم سلاطين الممالك، ليقف عند بداية دخول مصر تحت الحكم العثماني . المجلد الثاني بدأ من بداية الحكم العثماني مروا بالحملة الفرنسية، وعودة مصر إلي الحكم العثماني، وولاية محمد علي باشا عليها، وينتهي هذا الجزء بوفاة ابراهيم باشا عام 1848 . أما المجلد الثالث، فلقد تضخم قليلا حتي وصل إلي ثلاثة أجزاء مدمجة (الثالث والرابع والخامس) حيث يتناول الجزء الأول منه عصري عباس ومحمد سعيد باشا (1848-1836) وانفرد عصر اسماعيل (1863-1879) بالجزء الثاني والثالث بسبب وفرة المادة العلمية المجلد السادس والأخير ضم في داخله ملحقا وثائقيا يحمل عنوان "ملحق تقويم النيل عن الجسور والقناطر والكباري والخزانات علي النيل وفروعه بمصر والسودان، من فجر التاريخ إلي الآن "وضمنه ما استطاع من وثائق وجداول وإحصائيات ورسوم توضيحية ومن مميزات موسوعة امين باشا سامي كثرة استخدامه الوثائق التاريخية علي نطاق واسع كما استطاع أن يخضع الكثير من هذه المصادر للنقد التاريخي من خلال مقارنة الروايات والتحقيق والتدقيق فيما ورد فيها . ولقد استفاد أمين سامي في موسوعته من كتابات عبد اللطيف البغدادي، ابن إياس .... إلخ . أما المصادر الحديثة فلقد استفاد من كشف فيضان النيل الذي أعده المسيو لوبير، أحد رجال البعثة العلمية المرافقة للحملة الفرنسية، كما استعان بمحررات محمود باشا الفلكي بين عامي (1241- 1301ه) أما فيما يتصل بتحاريق النيل، فلقد استقي معلوماته من جريدة الوقائع المصرية . ومن هنا يمكن القول ان أمين سامي كان متنبها لتطور مناهج البحث في التاريخ، فاستطاع الغوص فيما تحت الظواهر التاريخية لإدراك أبعادها مع تقديم تحليلات وتفسيرات لكثير من الوقائع باسلوب سهل متميز تتدفق فيه الأحداث والوقائع عبر سياقها الزمني في تتابع منتظم وبلغة عصرية مباشرة خالية من السجع . مذكرات وحوليات الفصل الثالث من الكتاب بعنوان "أحمد شفيق باشا ونصف قرن من المذكرات والحوليات "، وأحمد شفيق (1860-1940) هو آخر كتاب الحوليات الكبار في تاريخنا القومي، وأهم مؤلفاته هو "مذكراتي في نصف قرن " و"حوليات مصر السياسية " فكتاب "مذكراتي في نصف قرن " يتناول تاريخ مصر خلال الفترة من 1873 إلي 1923، وقد نشرها في ثلاثة أجزاء ضمت في أربعة مجلدات، وتقع في نحو 1740 صفحة من القطع المتوسط .أما "حوليات مصر السياسية " فلقد صدرت في عشرة مجلدات، وغطت الفترة بين أعوام 1924- 1930، وفيه اهتم بجمع كل ما نشر في الصحف من قرارات وبرقيات ومنشورات ومقالات ومكاتبات ووثائق بشأن الأحداث الرئيسية والأزمات التي شهدتها مصر خلال تلك الفترة، ثم يصنف ما قيل ومانشر بشأنه في شكل مادة علمية للباحثين والقراء علي حد سواء . ولا يزعم أحمد شفيق باشا أنه قد أحاط بكل أحداث التاريخ إحاطة تامة؛ بل إنه ذكر بكل صراحة وقال " إن الحقائق التاريخية لا تدون كاملة أثناء وجود المعاصرين، بل ان كمالها يقدر ببعدها عن الجيل الذي تدون عنه . التاريخ الحربي لعصر محمد علي الفصل الرابع من الكتاب بعنوان "محمد فريد بك والتاريخ الحربي لعصر محمد علي". ومحمد فريد ( 1868-1919) هو رفيق الزعيم الوطني الكبير مصطفي كامل وخليفته في قيادة الحزب الوطني، وقد ترك لنا عملين تاريخين مكتملين، هما "البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية، والكتاب الآخر هو "تاريخ الدولة العلية العثمانية " ولقد أراد محمد فريد تأريخ عصر محمد علي منذ مجيئه إلي مصر ضمن الحامية العثمانية التي جاءت لاستردادها من الفرنسيين في مارس 1801، ثم حروبه مع الجزيرة العربية، والتي سماها "حروب الحجاز " وانتقل بعد ذلك إلي بناء الجيش الجديد لمصر، وجهود سليمان باشا الفرنساوي "الكولونيل سيف " في هذا الشأن، وانتقل بعد لك لمتابعة حروب اليونان، وحروب إبراهيم باشا ابن محمد علي في الشام وحكمه له، وثورات الأهالي ضد الحكم المصري .... الخ . ولغة الكتاب وأسلوبه سهلة وعصرية، قياسا إلي من سبقوه من المؤرخين، وباستثناء عدد من أخطاء النحو والإملاء، فإن الكتاب بشكل عام سليم في لغته. الفصل السادس من الكتاب بعنوان "نعيم شقير وكتابه المهم: تاريخ سيناء " ونعوم شقير (1864- 1922) ينتمي إلي موجة هجرة الشوام إلي مصر التي تدفقت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر . وكتابه عن تاريخ سيناء ينتهي عند عام 1907، ولقد توجه إلي سيناء في مهمة استخباراتية في سيناء عام 1905 حيث قضي فيها خمسة شهور كان يجتمع خلالها بشيوخ القبائل لمعرفة أحوالهم، ثم زار منطقة الطور في إبريل 1907 فأتيح له زيارة الدير والاطلاع علي مكتبته العامرة . وتنتقل مع صفحات الكتاب سريعا حتي نصل إلي رواد المدرسة الأكاديمية، ومن أشهرهم محمد شفيق غربال (1894-1961) الذي تمثل كتاباته ثورة في المنهج التاريخي، ومن أشهرها "المسألة المصرية وصعود محمد علي " (1928) و"الجنرال يعقوب والفارس لاسكاروس ومشروع استقلال مصر 1801 " (1932) و"مصر عند مفترق الطرق 1798- 1801 " (1936) ومحمد علي الكبير (1944) وتاريخ المفاوضات المصرية البريطانية 1882- 1936 (1952) وتكوين مصر (1957)، ومن زاوية القاهرة " . كما أشرف علي تحرير الموسوعة العربية الميسرة، وترجم كتاب كارل بيكر عن المدينة الفاضلة . أما محمد صبري السربوني (1894- 1978)فأشهر مؤلفاته هي: : تطور المسألة المصرية، نشأة الروح القومية المصرية، الامبراطورية المصرية في عصر محمد علي وإسماعيل .... إلخ ولقد تميزت كتاباته بالموضوعية الشديدة التي تعلم أسسها في جامعة السوربون، كما تميزت بالإيجاز والوضوح وسلاسة الأسلوب . ويبقي بعد ذلك من رواد المدرسة الأكاديمية أحمد عزت عبد الكريم ( 1909- 1980) وأحمد عبد الرحيم مصطفي (1925- 2002) أما عن الأول فهو صاحب كتاب "تاريخ التعليم في عصر محمد علي"، وقد صدر عام 1938 بمقدمة لشفيق غربال، وكتاب "تاريخ التعليم منذ أواخر عصر محمد علي إلي أوائل عهد توفيق "في ثلاثة أجزاء، وقد صدر عام 1945 . أما الثاني، فلقد كتب كتابا عن "الثورة العرابية "(1961) و "تاريخ مصر من الاحتلال إلي المعاهدة 1882 -1936 " والعلاقات المصرية البريطانية 1936-1956" ، و"تطور الفكر السياسي في مصر الحديثة" وأخيرا "شخصيات مصرية "(1993). ولقد تميز منهجه بالدقة مع القدرة علي الربط والمقارنة والتركيز، كما طالب بعدم إحاطة الشخصيات التي نكتب عنها بالقداسة وكأنها آلهة تمشي علي الأرض، ولا بالانتقاد المتواصل كأنها شياطين جبلت علي الشر بل دعا إلي دراسة الشخص في إطار عصره، وإلي تبني الرؤية الاجتماعية في تفسير التاريخ .