دعونا نطل في عجالة علي سيرته الذاتية، من أسرة مصرية رقيقة الحال كمعظمنا، قبل في الكلية الجوية، نجح، تخرج، عمل مدرسا بنفس الكلية، تزوج من أسرة تفوق مرتبته الاجتماعية وما كانت تقبله إلا لتميزه علي البيئة التي خرج منها، ارتقي إلي أعلي المراتب العسكرية، قام بواجبه في حرب 73 ، أصبح نائبا لرئيس الجمهورية، لا شائبة تشوب سمعته أو وطنيته خلال تلك الفترة الممتدة من وقت تخرجه في الكتّاب، إلي أن أصبح جزءاً من النظام وعلي القمة منه رئيسا للجمهورية، هنا بدأ منحني سيرته الذاتية يهبط، ليصل إلي أسفل السافلين. من المسئول؟ هل هي الجينات الوراثية؟ بالطبع لا وإلا لأطلت برأسها في مراحل مبكرة من حياته هل هي التربية غير الجيدة؟ الرجل كان عف اللسان، وعلي خلق، شهد بذلك القاصي والداني هل هي المدارس أو الكلية الجوية التي درس بها؟ غير صحيح، فالواضح انه شحن بالقدر اللازم من الوطنية بدليل أدائه في القوات الجوية، ضابطا صغيرا، وقائدا متميزا. أفسده النظام إذا فليس هناك من أفسده إلا النظام، والذي يؤكد ذلك الاستنتاج غير المرغوب فيه- هو ان ما حدث له حدث لنظرائه ممن يحملون نفس السير الذاتية المشرفة، التي يتمناها كل إنسان لنفسه، الدكتور أحمد فتحي سرور كمثال أستاذ جامعي متميز يشهد بذلك الوسط الأكاديمي ، وكل تلامذته من الحقوقيين، الدكتور عاطف عبيد مثال أستاذ جامعي أيضا «أنا من تلاميذه» الدكتور أحمد نظيف، وغيرهم ما لا يتسع المقام لذكرهم، حتي جمال مبارك الشاب المتعلم الراغب في أن يلعب دورا سياسيا، وأن يصبح رئيسا لجمهورية بلده، وهي رغبة مشروعة كان هناك طريقة أخري لتحقيقها لولا التحاقه بالنظام حاملا صفة ابن رئيس الجمهورية، مما أوحي بالتوريث الأسود، وهذا ما جعله ينحرف عن الطريق السليم، والذي كان متاحا، كأن ينضم لحزب كحزب الوفد مثلا «غير حزب أبيه» أو حتي ينشئ حزبا جديدا يتزعمه ويقام به سلبيات الحزب الوطني الصارخة والمعروفة له ولغيره وهناك سابقة لذلك وهو ما حدث بين رئيس وزراء اليونان بابندريوس وابنه وقد يؤخذ ما حدث بين أمير قطر الحالي ووالده الأمير السابق مثلا آخر. ومن الغريب أنه علي كثرة ما كتب، لم يتطوع أحد بتعريف النظام، ومما يدهش حقا أن يرفرف شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» كالراية في أجواء ميدان التحرير، وربما في العالم دون أن يهتم أحد باحاطتنا علما بمن المسئول عن وضعه، ومنذ متي وهو متسلط علينا، وكيفية الخلاص منه. ومع ذلك لا يمكن اتهام ثوار 25 يناير بأنهم لا يعرفون النظام الذي هبوا لاسقاطه، إنهم يعرفونه بنظام الضد، فلابد أن يكون أسود لأن النظام الذي يريدونه أبيض، أو شرراً لأن الآخر خير، ووفقا للمثل السابق يكون النظام القديم مقيدا للحريات لأن النظام الجديد مطلق للحريات، وغير ديمقراطي لأن الجديد ديمقراطي، فاسد لأن الجديد نظيف، ظالم لأن الجديد يحقق العدالة. هذه الدرجة من المعرفة للأسف أقل بكثير مما يجب لأن النظام المراد اسقاطه ليس مجرد صفات مجردة، إنه كيان حقيقي، له تاريخ ميلاد محدد، وأطوار نمو ربما لم تجد من يرصدها ولكنها موجودة، ومظاهر نمو كارثية لم يسمح هو نفسه بالتنويه عنها بالقدر اللازم، وبلغ من القوة والعنفوان حدا جعله كالثقب الأسود يشفط من يقترب منه ويطويه بداخله ثم يعيد تشكيله حتي يصبح جزءا من بنيته، عندئذ يفصح له عن أسراره، يغدق عليه بالمال والنفوذ والثمن هو أن يظل في خدمته ليصبح أكثر حقارة وأكثر انحطاطا. وكأي كيان فاعل له أدواته أو عدته بلغة الحرفيين، يستخدمها لإعادة تشكيل الأفراد الملتحقين به ابتداء من القاعدة حتي القمة. ولادة النظام هذا النظام ولد بعد احداث 1954، عندما فوض الشعب المصري بشكل نهائي وعن طيب خاطر ضباط يوليو لاتخاذ القرارات التي يرون أنها في صالح مصر وكان لذلك أسباب كثيرة لا يتسع المقام لذكرها جميعا وإن اتسع لبعضها فقد كانت الغربة قائمة بين الشعب والأسرة المالكة ذات الجذور غير المصرية، وبين الشعب والطبقة الأرستقراطية المكونة من خلطة مليئة بالشوائب الافرنجية، بين الشعب والمثقفين، فرحة الشعب بخروج المستعمر الذي جثم علي صدره 72 عاما فكان طبيعيا أن يقدم البلد كالنقوط في الأفراح، وبعد أن وقع التوكيل العام انصرف تماما للهتاف للشباب الواعد وطموحاته الوطنية التي زادت وفاضت حتي شملت الأمة العربية «القومية العربية» والعالم «حركة عدم الانحياز» وتشكلت ملامح نظام أخذته عن مصر الدول العربية الأخري سوريا، ليبيا ،الجزائر اليمن وغيرها ومهما تكن الاختلافات فجوهر هذا النظام هو التسليم بإدارة البلاد للمخلصين من أبناء هذه البلاد، هذا كان شكل الوليد عقب ولادته، لكن بنموه، وانتقاله من طور إلي آخر أصبح علي الصورة المرعبة التي هو عليها الآن مما دفع عدة بلاد عربية بمن فيهم مصر إلي الثورة عليه، والإحاطة به من كل جانب للقضاء عليه، والدليل علي ذلك الأعلام التي رفعتها تلك الثورات فكلها مستنسخة من علمنا، أبيض وأحمر وأسود. ثورات ضد النظام الربيع العربي أو الإعصار العربي أو الثورات الإسبارتيكوسية لم تكن ضد شيء إلا هذا النظام ولم يكن لها إلا هدف واحد هو إحلال الليبرالية مكانه وهو مالن يتحقق أبدا إذالم تعرف النظام معرفة يقينينة حتي يمكنها تحطيمه ورفع أنقاضه ثم وضع البنية الأساسية أو التحتية للديمقراطية الحقيقية كنوع من المتاريس التي تمنع عودته. النظام القديم له خصائص محددة كل واحدة منها لا تكفي عشرات الكتب لوصف تأثيرها المدمر علي الحياة المصرية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بل والأخطر تكامل هذه الخصائص وتوحدها في إنتاج آثار يصعب علي الباحث في بعض الأحيان معرفة أي منها هو المسئول، فأمام ظاهرة كاختطاف الإناث سيصعب عليك معرفة المسئول هل البطالة؟ هل عدم توافر المسكن؟ الخطاب الديني والأخلاقي، القصور الأمني؟ وهل لقصور مجلس الشعب وضعفه دور في ذلك؟ هل لعجزه عن حجب الثقة عن وزير الصناعة مثلا أثر في زيادة البطالة؟ وهكذا إذا ما خصائص هذا النظام الفاسد المفسد؟ أولا: حكم الفرد بم يجمع في يده من سلطات لا حدود لها. ثانيا: حزب واحد ليس أكثر من حشد من الناس يقفون استاند باي إذا ما انطلقت صفارة الرئيس طلبا لهتافاتهم، وليس مؤاذرتهم فهم أتفه من أن ينتظر الرئيس مؤاذرتهم. ثالثا: القمع الأمني بما يلزم من قوانين استثنائية، وبرموز من معدومي الضمائر والإنسانية. رابعا: إعلام موجه مدعوم بأساطين من الصحفيين والمذيعين والكتّاب ذوي الرؤية القاصرة أو من طلاب المنافع الخاصة ومن الفنانين من مغنيين وموسيقيين. خامسا: دستور عميل يعطي للرئيس الحق في الحكم مدي الحياة. سادسا: المجلس التشريعي المدجن، بجعل نصفه من العمال والفلاحين من ناحية ومن ناحية أخري باللعب في العملية الانتخابية لاختيار نواب يكون ولائهم الوحيد للنظام الذي يجلس علي قمته الرئيس الأوحد. سابعا: وزراء التكنوقراط الذين يأتي بهم الرئيس من الظلام ويضعهم أمام عدسات التليفزيون وفي صدر الصحف اليومية والأسبوعية مما يجعلهم يسبحون بحمده آناء الليل وأطراف النهار ويضع علي لسانهم كلمة حسب توجيهات الرئيس وكل قراراتهم تتخذ بغرض رضائه عنهم. هذه هي الأدوات أو العدة التي يعاد بواسطتها تشكيل خلق الله ليتحولوا إلي الشياطين الذين نراهم أمامنا الآن، ونعجب لكثرتهم، لبراعتهم، للأموال الطائلة التي امتلكوها. إذا ما انشغلنا باسقاط الأشخاص، وإذا ما تصورنا أن بسقوطهم سقط النظام وحققت الثورة هدفها، فنحن واهمون ففي خلال هذه المحاكمات التي شغلتنا بما تحمله من دراما، ستوضع الأدوات في المخزن، وقد يعلوها التراب لبعض الوقت، ولكنها ستظل في الحفظ والصون وفي الوقت المناسب وبأشخاص آخرين يعدون أنفسهم الآن، وينظمون صفوفهم، ويجهزون الأموال اللازمة لرشوة الغلابة والضحك علي البسطاء بشعارات دينية منسوبة لأعظم دين، سيقومون باستخدام نفس الأدوات بطريقة أشنع، بتوحش.