لأول وهلة، قد لا تصدق أن المسلسل الرمضاني المتميز "الشوارع الخلفية" من إخراج جمال عبد الحميد.. ولا أقصد أنه لا يستطيع تقديم مثل هذا العمل، بل إن الأسلوب الفني السائد في المسلسل مختلف تماما عن أسلوبه وعما اعتاد تقديمه في أعماله السابقة، التي يقتضي الإنصاف القول بأن معظمها ناجح. ورغم ذلك، فإن هذه الأعمال الناجحة لاقت انتقادات كثيرة، منها رأي أتفق معه تماما للكاتب الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة، ملخصه أن جمال يكتفي بتصوير الحوار المكتوب - معتمدا علي اللقطات المقربة للوجوه وأماكن التصوير الداخلية الضيقة - من دون أي محاولة للتعميق وإضفاء رؤيته الشخصية للأحداث، ومن دون إبراز الفترة الزمنية التي تدور فيها تلك الأحداث إذا كان العمل تاريخيا.. أي أنه باختصار يصنع أعمالا أشبه بالجداريات التي قد تكون جميلة لكنها بلا عمق.. وبناء علي هذا الرأي كان عكاشة قرر عدم التعامل مرة أخري مع جمال بعد الجزء الثاني من مسلسل "زيزينيا"، وقال لي وقتها إنه ملأ كراسة من 40 صفحة بالملاحظات علي الإخراج، بل قال إن عيب عدم التعبير عن الفترة الزمنية - الموجود في "زيزينيا" - هو نفسه العيب الرئيسي في مسلسل جمال الآخر "ريا وسكينة"، حيث يمكنك - في المسلسلين - وضع أي تاريخ علي الأحداث بلا أي مشكلة بسبب عدم إبراز المرحلة الزمنية، رغم أن العناصر التي يمكن أن تساعد علي ذلك موجودة بوضوح في الأصول الدرامية والأدبية للعملين. أما في "الشوارع الخلفية"، فيبدو جمال وكأنه بدأ يتخلص من كل عيوبه السابقة، فالتعبير عن الفترة الزمنية أوضح، والتصوير خارج الغرف الضيقة - حتي وإن كان في ديكورات مبنية - أكثر، واللقطات المقربة أقل، و"الرغي" بدوره أقل، مع ترك مساحات أوسع للموسيقي والتأمل والصمت.. ومن الواضح تماما أن جمال استفاد من التقنيات الجديدة في الإضاءة والتصوير بأعمال الفيديو، وعلي رأسها كاميرا "ريد"، التي تعد فتحا في عالم الفيديو، حيث تجعل الصورة أقرب إلي الصورة السينمائية بكل غناها وعمقها وثرائها البصري والدرامي.. كما استفاد من مشاهدة مسلسلات الفيديو الناجحة الأخيرة، مثل "أسمهان" و"ليلي مراد"، وبعدهما - وقبلهما من حيث الأهمية - "الجماعة".. ولا أقصد أنه قلدها، بل أدرك إلي أي حد يمكن أن تكون الإضاءة الموحية المعبرة في خدمة الدراما، وإلي أي حد يمكن أن تغني الصورة البليغة الثرية عن ألف كلمة. أبيض وأسود وكان جمال عبدالحميد تحدث - في تصريحات صحفية - عن استخدامه كاميرا واحدة في تصوير المسلسل قائلا: "تركيبة الكاميرا الواحدة تشبه السينما إلي حد بعيد، ولكن مشكلتها الوحيدة في تواصل الإحساس لدي الممثل، وهذا ما يزعجني، لأنه يجعلني أسير وراء إحساس الممثل في أي مشهد بخلاف التصوير بكاميرتين.. ولكن في الوقت نفسه منحتني الكاميرا الواحدة قدرة السيطرة علي التكوينات وعمل تكوينات جميلة من خلال ضبط زوايا الكاميرا، وبصراحة كنت أريد أن أحقق ذلك بصريا في هذا العمل حتي أجعل المشاهد مرتاحا من دون أن أرهقه بصريا من خلال الإضاءة". وقبل أن أترك الجانب التقني، لابد من الإشارة إلي درجة اللون التي اختارها المخرج لعمله بشكل عام، والمناسبة تماما للمرحلة التاريخية التي تدور فيها الأحداث، حيث يكاد من يشاهد المسلسل أن يعتقد أنه بالأبيض والأسود، في انتصار للمعايير الموضوعية علي منطق "فرح العمدة" الملون السائد في أعمال فنية أخري. وإذا كان جمال عبدالحميد بريئا هذه المرة من عيوب المسلسل، فإن عيوبه القليلة تكمن في السيناريو، الذي أعده الدكتور مدحت العدل عن رواية بنفس الاسم للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي، وأبرزها ستاتيكية المشاهد وتكرارها علي نحو يتسبب في الإطالة ويبعث أحيانا علي الملل.. فقد شاهدنا عدة مرات مشهد انتظار الضابط شكري عبد العال (جمال سليمان) عودة سعاد هانم (ليلي علوي) إلي المنزل الذي يتجاوران فيه، ولومه لها - في بئر السلم - علي التأخير.. كما شاهدنا عدة مرات - علي نفس السلم - المشاهد التي تستهدف إبراز نمو علاقة الحب بينهما، مع تكرار نفس الجمل الحوارية تقريبا، والمشاهد التي توضح تضرر ابنته سميرة (مريم حسن) من هذه العلاقة.. وهذه مجرد أمثلة علي تكرر المشاهد في كل محاور العمل الدرامية وفي كل الخيوط التي تربط بين الشخصيات. بطء الأحداث كما عاني المسلسل طويلا، حتي منتصفه تقريبا، عدم تقدم الأحداث، أو عدم وقوع أحداث تقريبا، حيث استهلك السيناريست حلقات كثيرة جدا لتقديم الشخصيات والكشف عن علاقاتها ببعضها البعض وعمل "الفرشة" الدرامية اللازمة للمسلسل.. صحيح أن الصورة جميلة، والحوار راق، وكذلك أداء الممثلين، إلا أنني واحد من المشاهدين الذين سألوا أنفسهم بعد عدة حلقات، وبعد أن راحت سكرة الإعجاب وجاءت فكرة الحقيقة: وماذا بعد؟ لابد أن يحدث شيء ما! لكن يحسب للسيناريست المجهود الكبير الذي بذله في كتابة الحوار بهذا الشكل الشاعري الذي يجيده باعتباره شاعرا، ويحسب له أصلا اختيار هذه الرواية في هذا التوقيت، فهي تقدم صورة مصر الليبرالية المتنوعة التي يبحث عنها المصريون الحقيقيون الآن، ويتمنون عودتها، ولا يرفضها سوي الفاشيين، الذين يريدون تحويل مصر إلي إمارة متأسلمة تابعة للملالي في إيران أو الوهابيين في السعودية. نجح المسلسل في التعبير عن الطبقة المتوسطة، التي ينتمي إليها معظم شخصياته، بل وتمجيدها باعتبارها قاطرة التقدم والحرية في أي مجتمع.. كما نجح في إظهار التماسك والتعايش بين عنصري الأمة من مسلمين ومسيحيين من دون تعبيرات إنشائية ولا شعارات جوفاء فارغة من نوع يحيا الهلال مع الصليب، فقد تم تقديم الشخصيات المسيحية، مثل الأسطي عبد الله الفدائي (الشحات مبروك) وزوجته (أميرة نايف) وميخائيل أفندي، المدرس بالمدرسة الخديوية، بشكل طبيعي وتلقائي يؤكد أنها جزء من نسيج المجتمع، لأن أي محاولة لتمييزها أو التأكيد عليها، كانت ستصبح فجة كما يحدث في العديد من الأعمال الفنية الأخري. "بخاخة" الثورة والأهم أن المسلسل لم يلجأ إلي "بخاخة" ثورة 25 يناير لكي يرش بعضا من مظاهرها علي أحداثه كما فعل صناع دراما آخرون، بل عبر عنها أفضل تعبير لكن بشكل غير مباشر وبطريقة الاسقاط التي قد تكون أقوي من المباشرة.. فلدينا ضابط الجيش البطل الذي يرفض إطلاق النار علي المتظاهرين، في إشارة إلي موقف الجيش المصري من ثوار يناير، ولدينا شباب الثلاثينات من الفدائيين والمناضلين، وهم أجداد من قاموا بثورة 2011، ولدينا "برادع" الإنجليز والمتعاونون معهم، في إسقاط واضح علي "برادع" النظام الفاسد السابق وفلوله. ويبدو أن العدل كان يعرف تماما ماذا يريد من الرواية وماذا يريد لها، فقد قال في تصريحات صحفية: "لن نشير إلي أحداث ثورة يناير ولكننا متمسكون بروحها في الأحداث، فالمسلسل مأخوذ عن رواية، ونحن تحركنا بحرية في بعض الأمور وحافظنا علي الحقائق الأدبية الواردة في الرواية وعلي زمنها، وذلك لسببين، الأول أن روح الرواية تتفق مع ما يحدث الآن وما حدث في يناير، ويكفي أن أذكر أن المسلسل ينتهي بانتفاضة تشهد سقوط عشرات الشهداء، وهو ما يقترب كثيرا في مضمونه مع ما حدث في الثورة، وبالتالي لا نجد مبررا للي ذراع الأحداث لتناسب الثورة. والسبب الثاني أنني عندما اخترت الرواية كان الهدف منها اجتماعيا وليس سياسيا لأنني قررت التركيز علي أبعاد اجتماعية في الرواية تتعلق بالطبقة المتوسطة، وكيف كان نسيج هذه الطبقة صمام أمان المجتمع المصري، فالمحرك الأساسي لإنتاج هذا المسلسل كان ما شهدته مصر منذ شهور من انقسام طائفي، وكان لدي سؤال: كيف نجحت القاهرة، تلك المدينة الكوزموبوليتانية في ظل نسيج يجمع بين طوائف دينية متعددة خلال الثلاثينات، في مواجهة الاحتلال، وكانت مدينة عالمية في مظهرها وملامحها، وتفشل في ذلك الآن؟". لذلك يبقي المسلسل - في رأيي - عملا جميلا ومهما رغم ما ذكرت من عيوب في السيناريو، ويكفيه تقديم عدد كبير من الممثلين الجدد الرائعين، في مقدمتهم مريم حسن، التي تبدو وكأنها تمثل من سنين، وحورية فرغلي، التي أعلن رمضان مولدها كنجمة بدوريها في "الشوارع الخلفية" و"دوران شبرا"، وأحمد داود وأحمد مالك والإخوان شادي وفادي خفاجة.. بالإضافة بالطبع للكبار، الذين تألقوا جميعا ولمع منهم بشكل خاص جمال سليمان، في واحد من أفضل أدواره علي الإطلاق، والرائعان محمود الجندي ومحمد الصاوي.