الأخطاء في الكتب متوقعة، فنحن بشر غير معصومين، ومما يقلل من وقوعها، ويخفف من تأثيرها، طول النظر فيها، وإصلاح الفاسد منها، والأغلاط المنتظر وقوعها في كثير من الأحيان يمكن علاجها، ولكن هناك اغلاطا تصدع الذهن، لأن موضوع الكتاب لا يحتملها، ولم يكن من المتوقع أن تقع، فإذا وقعت صار الخطأ خطرا. الأعمال الشعرية الكاملة لخليل مطران التي أعدها أحمد درويش ديوان يجمع شعره، وغير المتوقع أن يدخل فيه شيء من شعر مصطفي صادق الرافعي، فإذا بي أجد في ص 2711 مقطعة لمطران عنوانها «هل للهموم قلوب؟» ومطلعها «من دونك البين يا ليلي ومن دوني»، وهذا مطلع قصيدة الرافعي، اسمها «إلي بحمدون» (مدينة لبنانية). ولا صلة لمطران بها، علي الاطلاق، ودون أدني شك، والبيت الأول من قصيدة الرافعي هو: «من دونك البين يا ليلي ومن دوني/ وبعض ما كان قبل البين يكفيني» والقصيدة الرافعية منشورة في مجلة «الزهور» عدد مايو 1912 ص149، وقد رد علي الرافعي من بحمدون شاعر يدعي حبيب ثابت يقول: «ليلي تحييك من أعلي بحمدون/ والبين فاعلم كما يشجيك يشجيني» (الزهور السنة الثالثة ص286)، فماذا يكون عليه الأمر لو أن قصيدة الرافعي بكاملها تمطت بصلبها، وأردفت اعجازا في الأعمال الكاملة (ومعذرة لامرئ القيس) علي أن مقطعة «هل للهموم قلوب» المطرانية مطلعها: «ألقي الجمال عليك آية سحره» وفي نفس الصفحة 2711 يذكر د.درويش قصيدة «الزهور الثلاث» ويقول إن مطلعها هو «صبح الأزهار صيف ملكي يبهر» والصواب طيف ملكي. وأحيانا يجعل الدكتور أحمد درويش عناوين أبواب المجلات أسماء لقصائد مثل قوله: قصيدة «في رياض الشعر» ص2711 ومطلعها «يا سبط يحيي وسليل العلا» وليست هناك قصيدة بهذا الاسم، وإنما «في رياض الشعر» عنوان باب ثابت في مجلة الزهور، كان ينشر فيه انطون الجميل ما تجود به قرائح الشعراء، وكل قصيدة تنشر لها اسم، وعنوان قصيدة مطران التي ذكرنا مطلعها هو «ردوا علي الأوطان عزا خلا»، (الزهور ديسمبر 1912) ونفس الشيء فعله مع مجلة تركيس، ففي ص2712 أن قصيدة «حسنات الشعراء» مطلعها «ليلي اجمعي الناس إلي محفل» وحسنات الشعراء اسم باب ثابت كان ينشر فيه سليم سركيس ما تجود به قرائح الشعراء، واسم القصيدة في ديوان الخليل «ليلي المغنية» وكانت مغنية شهيرة وقد اثني عليها شعراء منهم شوقي، وأحيانا يكون نقل عناوين القصائد من الصحف غير دقيق مثل قصيدة «تحية مصر والشام» ص2711 والصحيح «تحية الشام لمصر» ومطلعها يفيد ذلك «إلي مصر أزف عن الشام تحيات الكرام إلي الكرام» (الزهور ابريل 1912 ص118). تواريخ مغلوطة والببليوجرافيا متقلبة مضطربة، والقصيدة الواحدة لها عدة أسماء دون إيضاح، وتواريخ قصائد فيها وهمية، أو مغلوطة، والقارئ يتنقل معها من منحدر إلي منحدر، ومن هذا قوله إن قصيدة ص2711 «ولقد ذكرتك» ومطلعها «إني أقمت علي التعلة والمنيم» منشورة في العدد العاشر السنة الثانية شهر تشرين الأول سنة 1928 من مجلة الرسالة، ومعني أن القصيدة نشرت في الرسالة في السنة الثانية أن مجلة «الرسالة» صدرت عام 1926، وجميع أدباء العالم العربي من المحيط إلي الخليج يعرفون أن «الرسالة» (الزيات) صدرت في مستهل عام 1933، فهل كان مطران ينشر فيها شعره قبل صدورها بأعوام، ثم إن أحمد حسن الزيات هل كان ينحي التقويم الهجري، والتقويم الميلادي، ويستخدم في تأريخ أعداد الرسالة التقويم السرياني فيقول تشرين أول ولا يقول أكتوبر؟ ويقول إن مقطعة «العذول والخيال» منشورة في مجلة سركيس عدد ابريل 1913 وهذا تاريخ وهمي، ولا وجود للمقطعة في سركيس في هذا التاريخ، فماذا انت قائل؟ ثم إن الطريقة التي يرصد بها عناوين القصائد من الدوريات فجة، فإن المطلع الذي ذكره «إني اقمت علي التعلة والمني» هو مقطع من مقاطع قصيدة «المساء» المعروفة، وليس هو عنوان قصيدة في الأصل، والعنوان «ولقد ذكرتك» ليس عنوانا مستقلا، وإنما بداية آخر مقاطع «المساء»، وكل هذا كان يجب أن يذكره ويوضحه في هامش الصفحة، لكي نفهم، أما ما هو وارد في الببليوجرافيا فهو رص كلام لا يجود علي القارئ بشيء، بل يدخله في أتاويه، وهناك قصائد تأتي في الصحف باسم، وتأتي في الديوان باسم آخر، وعلي كاتب الببليوجرافيا توضيح ذلك في الهامش، والببليوجرافيات ليست جمع معلومات فحسب، وإنما لابد من فهم هذه المعلومات لافادة الباحثين. قصائد ناقصة وقارئ الأعمال الكاملة لخليل مطران يلغي قصائد ومقطعات غير قليلة، ناقصة، أي أقل في عدد الأبيات من مثيلاتها في «ديوان الخليل» ط الهلال عام 1949، فقد افلتت أبيات ومقاطع لم يتنبه لها كاتب الكمبيوتر ولم يجد من يراجع وراءه، ويلفت نظره، فجاءت مبتورة شائهة، ومن أمثلة ذلك قصيدة «إلي حسناء لبنانية» ص2287 عدد أبياتها في «ديوان الخليل» اثنا عشر بيتا، أما في الأعمال الكاملة فقد صارت خمسة أبيات فقط، أي حذف منها سبعة أبيات، لذلك وضعها درويش في قسم المقطعات. وقصيدة «إلي مي» ص 922 مكونة في الأصل من ستة وعشرين مقطعا، فحذف منها المقطع الثالث عشر وهو «ابلي الزمان وأحبي»، وقصيدة رائية هي «شروق شمس في مصر» ص676 مكونة من عشرة مقاطع، كل مقطع له عنوان، وتتكون من خمسة وخمسين بيتا، ولم يأت منها في الأعمال الكاملة سوي المقطع الأول وأبياته تسعة، ونسي د.درويش ستة وأربعين بيتا، وقصيدة «الأثر الباقي» ص2002 من حكاية عاشقين نقص منها بيت، وقصيدة «نشيد مصر»، ص 1917 نقص منها البيتان الأخيران، والقائمة طويلة، ونكتفي بذلك، وإذ أردت المزيد زدناك. وأرجو من القارئ الصديق ألا يستهين ببيت واحد سقط من قصيدة، فقد نظم مطران هذا الشعر في زمن كان النقاد لا يملون من الحديث عن «الوحدة العضوية»، في القصيدة، ونقص بيت أو بيتين من قصيدة في منتصفها أو في آخرها، قد يخلخل بناءها، ويفكك أجزاءها، أما إذا كان البيت في آخر القصيدة فقد يكون فيه النتيجة التي توصل إليها الشاعر، أو الخلاصة النقية التي حصلها أو الوصية الغالية التي أراد أن يبلغها لنا، أو يتم فكرة فلسفية، أو يكمل رؤية فنية، وحتي إذا ابتعدنا عن الوحدة العضوية، فإن بيتا واحدا في قصيدة قد يضرب به المثل، وأحيانا يقال هذا بيت القصيد، وفي كل الأحوال يجب الحفاظ علي تراث السلف، وتقديمه بإجلال للأجيال التالية وافيا غير منقوص. وهذه القصائد المبتورة، إذا أضفناها إلي القصائد الكاملة المنسية التي ذكرنا عددا قليلا منها في المقال السابق تبين لنا مدي الفساد الذي تمشي في الأعمال الكاملة، وهدم أركانها، ولم تعد تجدي فيها مرمة أو مرمات، وإنما تحتاج إلي إعادة بناء، وكنا قد ذكرنا أن القصائد المنسية حوالي سبعين قصيدة ومقطعة، وتبلغ نحو ألف وثمانمائة بيت، ولكن الآن ارتفع العدد، فبعد مزيد من البحث صارت حوالي ثمانين وتجاوز عدد أبياتها ألفي بيت بعد أن بدا لنا أن جامع الأعمال الكاملة لم يرصد قصيدة مطران في رثاء حافظ إبراهيم وعدد أبياتها وصل إلي مائة وتسعة وستين بيتا (169) وقصيدة «زفاف نقولا سرسق» وأبياتها وصلت إلي مائة وستة عشر بيتا (116) وتأبين عبدالخالق ثروت وعدد أبياتها تجاوز الخمسين، عدا قصائد ومقطعات أخري علي أن هذا القصور الواضح يوحي للقارئ بأن الجامع كان يقدم مختارات من شعر مطران وليس أعمالا كاملة، وأرجو ألا يغضب مني د. درويش فليست مهمتي النقد، وإنما الإصلاح، وترك الكتاب أصح وأوفي مما كان عليه، ولقد كشفت له أسرار كتابه، ودللته علي خفاياه، وذكرت له معايبه ونقائصه، وكان لا يعرفها بالطبع، ولو كان يعرفها لتداركها. بين النص والعنوان نري عناوين قصائد لا تتماشي مع نصوصها، أو بعبارة أخري لا يعبر العنوان عن النص المكتوب ونضرب مثلا بمقطعة عنوانها: «تقدير الوطن» للمغفور له توفيق نسيم 1930، ص2527. والذي يطالع هذا العنوان يدرك أن نسيم باشا مات سنة 1930 وأن الوطن يقدره أي أن مضمون المقطعة تأبين أو رثاء، أو أي شيء يعبر عن ميت، مع أن محمد توفيق نسيم باشا كان في ذلك التاريخ حيا، وقد تولي رئاسة الوزارة للمرة الثالثة من نوفمبر 1934 إلي يناير 1936 وكان علي قيد الحياة، أما النص فيبين أنه تم في عهوده بناء ما أراد بناءه، وأن دستور مصر أعيد عن ثقة بالحق. ويمضي مطران في مدحه ويقول: إن الزعماء ساروا علي هديه، ثم يقول له «فاهنأ» وهي كلمة مدح تقال للحي، وعلي هذا النحو يسير عنوان المقطعة في واد، ويمضي نصها في واد آخر، والغريب أننا لا نعرف من أين أتي بهذا الشعر، وعلي الراغب في معرفة مصدر هذا الشعر أن يلجأ إلي الكهان والعرافين «ما قاله مطران عن توفيق نسيم لم يحصل فلا دستور ولا استقلال ولا بناء، وإنما مطران يجامل». قصائد مجتمعة تفرقت القصيدة أو القصائد التي سنتحدث عنها حالا جفاها القدر، فحلت بها مأساة والمأساة لا تحل بالإنسان فحسب، وإنما قد تمتد إلي الأشياء فتضار، وخلاصة حكاية القصائد أن مطران قام برحلة إلي بلاد الشام عام 1924، وسجل انطباعاته شعرا في عدة قصائد متتابعة تحت عنوان واحد بارز «رحلة الشاعر إلي لبنان وسوريا وفلسطين» وهي قصيدة استهلالية تمهيدية، ثم توالت القصائد عن حفلة «زحلة والمعلقة» وعن «حفلة زحلة» وعن «حمص» ثم عن «حلب» و«طرابلس» و«أرز الجنوب» و«جزين» و«الموسيقي» التي عزفت له في دمشق، و«زيارة مدينة طولكرم» وشكره لأهل القلقيل و«تحية القدس الشريف» وكان في كل قصيدة يذكر القارئ بكلام نثري أنه في رحلة صيف 1924 ومجموعة هذه القصائد مترابطة متلاحقة في «ديوان الخليل» والقارئ يتنقل مع هذه القصائد علي ترتيبها في الزمن والمكان، فلما نقل درويش هذه الرحلة في الأعمال الكاملة، قام بتفريقها في مختلف الأجزاء حسب القوافي، فلم تمتع. كان يستطيع أن يتركها علي ترتيبها الأصلي، ويتعامل معها كما تعامل مع مجموعة قصائد «حكاية عاشقين» «قصة حب خليل مطران» التي استثناها من الترتيب الهجائي للقوافي، ومما هو جدير بالذكر أنه نسي وهو يعيد ترتيب القصائد، القصيدة الاستهلالية التمهيدية، فلم يسجلها وعدد أبياتها أربعة عشر، ونسي بيتا من قصيدة «جزين» وهو قبل الأخير، وهكذا جاء ترتيبه بالخسارة علي الرحلة، وليست الخسارة محصورة في نسيان خمسة عشر بيتا فحسب، وإنما في تفريق القصائد وفقدان تأثيرها وجاذبيتها، وتسلسل خواطرها، وعرضها لجوانب الحياة في هذه المدن بالتتابع أثناء طوافه بها. ثم ما هذه الطريقة العقيمة التي اتبعها درويش في ترتيب شعر مطران، وهي الطريقة القديمة التي ترتب القصائد، وفقا للقوافي، فتأتي بقصيدة قالها الشاعر وهو في أول العمر إلي جانب قصيدة قالها وهو في آخر العمر، وأي فائدة في ذلك؟ إن النهج التاريخي هو النهج الذي يجب أن يتوخي في ترتيب الشعر لنطالع سيرة الشاعر في شعره، وقد رتب مطران شعره ترتيبا تاريخيا، وكان علي درويش أن يساير هذه الطريقة لأنها الطريقة المثلي. شيء آخر تغاضي عنه الدكتور درويش عامدا وهو صرف نظره عن الشخوص وملابسات الحوادث التي حوتها الأعمال الكاملة فديوان مطران صار اليوم مثل دواوين التراث يحتاج إلي شرح للكلمات المستوعرة، وإيضاح الجمل الغامضة وذكر مناسبات القصائد والتعريف بالشخوص المذكورين، و صاروا اليوم غير معروفين، مثل آل لطف الله، وإبراهيم شدودي وأمين الحداد، ونقولا رزق الله وغيرهم. فمن يعرفهم اليوم؟ وتعريف الشخص في سطر أو سطرين يشع عليه ضوءًا شاحبا، وهذا أفضل من الظلمة، لقد أهمل كل هذا عدا ما وقع عليه في المصادر التي رجع إليها. لقد أمضيت أكثر من شهرين والأعمال الكاملة تحت عيني وكانت تتساقط أخطاؤها الكثيرة والمتنوعة في يدي تباعا، مثل القصائد المحذوفة التي تعد أبياتها بالآلاف، والقصائد المبتورة والقصائد المكررة، وأخطاء الطباعة، وتنافر العناوين والمضامين والببليوجرافيا البائسة، والتقسيم الشائه للقصائد والمقطعات فتسعة أبيات في باب القصائد، وأربعة عشر بيتا في باب المقطعات والباحث يدوخ أثناء البحث بعد أن أرغم علي اتباع سياسة «دوخيني يا لمونة» هذا عدا التنافر بين عناوين القصائد ومطالعها، وما نقله من جهود كاتب هذه السطور العقلية والنقلية في «الديوان المجهول لخليل مطران» وغير ذلك مما لم نذكره بعد، وهكذا تري أيها القارئ الصديق أن الأعمال الكاملة لمطران مثل صندوق الدنيا المليء بالغرائب والعجائب، فاتفرج يا سلام.