لم يعد الإرهاب تهمة تلصق فقط بالحركات الأصولية الإسلامية حسب قاموس التصنيفات السياسية والإعلامية الغربية، بل كشفت المجزرة التي ارتكبها النرويجي "انديرس بيرينج بريفيك" عن وجود اصولية مسيحية متطرفة تنتشر علي كامل مساحة القارة الأوروبية وتتأثر أيديولوجياً بحركات صهيونية هدفها محو الإسلام من الوجود في أوروبا حتي وإن تتطلب الأمر إعادة إحياء "الحملات الصليبية " أو إعادة بعث ما كان يسمي تاريخياً ب "فرسان الهيكل". لقد كشفت الوقائع من خلال التحقيقات الأولية التي تجري بشأن عملية التفجير التي نفذها المواطن النرويجي وسط العاصمة اوسلو، ومن ثم الجريمة التي ارتكبها يوم الجمعة في 22/7/2011 في جزيرة "يوتويا" والتي ادت الي مصرع 76 شخصاً أن هناك مخططاً محبوكاً بشكل دقيق يمتد من النرويج وصولاً الي بريطانيا وأن المسألة ليست مرتبطة بشخص مختل عقلياً كما يحاول أن يروج محامي الدفاع عن بريفيك . أما القول بأن أسباب تصاعد اليمين المتطرف انما يعود للأوضاع الاقتصادية المتردية التي تمر بها معظم الدول الأوروبية فهو كلام مناقض للواقع لان النرويج دولة ثرية ولا تعاني إشكاليات مع قضية اندماج المسلمين ، وأن ازمتها بالدرجة الأولي هي أزمة هوية ثقافية تطال الشباب خاصة وأن الجزار النرويجي ينتمي الي منظمة «نوردسيك» وهي منظمة قومية متطرفة ومنتشرة جميع الدول الاسكندنافية الشمالية وعلي علاقة بالمتطرفين المسيحيين. كما أن لدي القاتل ارتباطات بمنظمة «اوقفوا اسلمة أوروبا» النشطة في ألمانيا وبلجيكا وهولندا وبريطانيا والتي تتحرك بشكل علني في بروكسل . معلوم أنه تم تأسيس منظمة «اوقفوا اسلمة أوروبا» من قبل شخصين هما «جريفيرز» و«جاش» بهدف "الحيلولة دون أن يصبح الإسلام قوة سياسية مهيمنة في أوروبا." وتقول المنظمة إن عدد اتباعها وصل إلي 30 ألفا علي الفيس بوك. وقال جاش إن المنظمة غير سياسية وتعارض كلا من الإسلام والنازية . يعتبر زعيم الحزب الفلمنكي البلجيكي المتطرف فيلب ديونتر عضوا نشطا في المنظمة الي جانب احزاب من هولندا والنمسا وألمانيا وبريطانيا ودول أوروبا الشرقية. كما يعتبر المليونير البريطاني ألان لايك الممول الرئيسي للتنظيمات المسيحية المتطرفة و"الأب الروحي" لها . ما شعار "الحيلولة دون أن يصبح الإسلام قوة سياسية مهيمنة في أوروبا" إلا الفزاعة التي يستخدمها اليمين المسيحي المتطرف للتخويف من الوجود الإسلامي ولزيادة مساحة انتشاره أفقياً وعمودياً في أوروبا مستفيداً من استغلال الحكومات الأوروبية نفس الشعار من أجل تضييق حريات المسلمين الدينية والاجتماعية. مما يعني أن هناك تواطئا بين السياسيين الأوروبيين واليمين المتطرف دون أن تتمكن المؤسسات الاتحادية في بروكسل من التأثير علي خيارات هذه الحكومات. لقد حصل هذا التواطؤ في هولندا والدنمارك والنمسا، كما في بعض الدول الشرقية مثل المجر. الملاحظ أن كل المنظمات اليمينية المسيحية المتطرفة ترفع نفس الشعارات تقريباً والتي تتمحور حول النقاط التالية : - رفض العولمة - الربط بين تراجع مستوي المعيشة وحضور المهاجرين - التأكيد علي أن الإسلام لا يمكن أن يتعايش مع المجتمعات الغربية وان المجتمع المتعدد الثقافات هو نوع من الوهم . يضاف الي ذلك أن أدبيات هذه المنظمات تبين الي أي حد أنها مرتبطة بإسرائيل وتدافع عنها وتتبني سياساتها ومواقفها وتكن العداء للعرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص إضافة إلي عدائها للنازية. وهذا الأمر كان واضحاً في كتابات المجرم النرويجي وفي مراسلاته وفي الوثائق التي كان يعمل علي تجميعها . هذه الثقافة العدائية للعرب والمسلمين ليست وليدة أفكار التنظيمات المتطرفة فقط ولا هي الوحيدة المسئولة عنها بل تتحمل المسئولية الرئيسية دوائر القرار السياسي والإعلامي في الغرب عندما بدأت تبث روح الكراهية ضد الإسلام والمسلمين إثر حصول أحداث 11 سبتمبر 2001 دون أي تمييز ما بين إرهابي إسلامي يتستر بالدين لأغراض خاصة به ، وما بين عنصر مسلم لا علاقة له ولا لدينه بالإرهاب والعنف والتطرف. هذا النمط من الثقافة مازال سارياً حتي الآن بدليل أنه ما إن وقعت مجزرة النرويج حتي بادرت بعض وسائل الإعلام الغربية الي توجيه أصابع الاتهام إلي أطراف إسلامية بحجة أن النرويج متورطة في العمليات العسكرية في أفغانستان وليبيا، وأن المجزرة التي وقعت لابد أن تكون من صنيعة متطرف مسلم . ولكن سرعان ما اكتشفت دوائر القرار الأوروبي أن من نفذ المجزرة هو نرويجي مسيحي. هنا بدا وكأن أوروبا قد وقعت في إرباك كبير إذ كيف لها أن تواجه مستقبلاً التطرف المسيحي بعد أن كانت كل استعداداتها تنصب علي مواجهة التطرف الإسلامي فقط؟ وكيف لها أن تميز المسيحي المتطرف عن المسيحي المعتدل لطالما أنهم جميعاً من نفس الجذور والعرق والدين فيما كان التمييز أسهل في السابق بين المسيحي والمسلم لكون هذا الأخير في أغلب الأحيان لاجئاً أو مهاجراً أو لديه ملامح مختلفة عن المواطن الأصيل؟ المشكلة لن تنتهي مع محاكمة بريفيك بل إنها البداية علي طريق المواجهة مع الآلاف ممن يعتنقون نفس مباديء بريفيك، كما المشكلة هي كيف ستواجه حكومات يمينية منظمات وأشخاص من نفس توجهها الإيديولوجي خاصة أن هذه المنظمات وهؤلاء الأشخاص هم من أوصل هذه الحكومات الي السلطة؟ الأنكي من ذلك هو أن مجزرة النرويج قد بينت أن جذور الأزمة تكمن داخل البنية الاجتماعية الأوروبية التي تتبني ثقافة رفض الآخر وعدم الاعتراف به والاستعداد الي حد مواجهته بالعنف وشتي وسائل الإرهاب، فيما كان الخطاب الرسمي الأوروبي في كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وفي بعض الدول الإسكندنافية، وغيرها.. يتزرع بأن المسلم يشكل تهديداً للعلمانية، ولسياسة الإندماج ، ولأنه لا يحترم قوانين الهجرة، ولأنه مشروع إرهابي، ولأنه السبب في شيوع البطالة وزيادة التضخم! فهل تحصد أوروبا الآن نتيجة ما زرعته بيديها من مفاهيم مغلوطة؟ وهل ستدق قضية بريفيك ناقوس الخطر لكي تعيد الحكومات الأوروبية النظر بمشاريعها وسياساتها؟ وهل ستستوعب أوروبا الآن أن الإرهاب لا دين له ولا انتماء؟ وهل يدرك الغرب الآن أن ما حصل في النرويج قد اسقط نهائياً نظرية صمويل هنتنجتون حول صدام الحضارات؟