في إطار خلاف بين فلاحين اثنين استغفل أحدهما الآخر وجار علي أرض جاره، ونقل حديدة الحدّ داخل أرض الجار لمسافة متر دون أن يلحظ الجار ذلك لمدة سنوات، تكون المصارحة والاعتراف بما فعله المعتدي عند اكتشاف جريمة السرقة مطلوبة بل وضرورية، وإعطاء صاحب الحق حقه، وإرجاع الحديدة لمكانها الصحيح تحت إشراف المحكمين، والتعويض عن ذلك بشكل أو بآخر، ثم التصالح في نهاية الأمر، ويبوس الظالم رأس المظلوم، قائلا:"حقك علي"، و"عفا الله عما سلف"، ويقرأ الفاتحة ويمسح بيديه علي وجهه، كلّ من حضر جلسة العرب تلك، العمدة وشيخ الخفر وكبار رجال البلدة ومشايخها، وينتهي الموضوع، ولا بأس من أن نأكل بعدها سوىًا عيش وملح وزفر. في مثل تلك الحالات، يكون مبدأ "المصارحة والمصالحة " مقبولا. أما في حالتنا تلك، التاريخية في دورها، والكارثية في أثرها، والسياسية في جوهرها - وليست الجنائية في صميمها-: عشرات، ربما مئات من أفراد وأسر البرجوازية الرثة غير المنتجة تستولي علي أراضي الوطن وتتاجر فيها بفحش غير مسبوق مع الأقارب والمحاسيب والأصدقاء والأعداء، عمليات نهب منظمة لتقطيع جسد الوطن وبيع ثرواته، حتي للعدو الصهيوني وأخذ العمولة!، بيع الوطن بالمجان، وأعمال السمسرة،والصفقات غير القانونية، وغسيل الأموال القذرة، والاتجار في ديون الوطن بطرائق تفوق التصورات، واكتناز المليارات من الجنيهات والدولارات واليوروهات داخل الوطن وخارجه علي سبيل الاحتياط، في احتمال قدوم يوم لم يكن متوقعا بالنسبة لهم - وجاء اليوم بالفعل (25 يناير 2011 ) بغتة كالموت وكاشفا كالشمس. المصارحة فالمصالحة كان مرجعهم في فكرة "المصارحة فالمصالحة" أنه قد حدث ذلك من قبل، في دول مثل المغرب والأرجنتين وتشيلي، من خلال اعتراف من ظلموا وقتلوا بجرائمهم- هذه هي المصارحة، ثم الاعتذار عن جرائمهم، ودفع تعويض ما - بعدها تحدث المصالحة. يذكرني ذلك ببعض الدول الغربية التي طالعتنا ذات يوم بفضيحة تاريخية: بأنها تعتذر عن الاستعمار!!! بل إن الأممالمتحدة أصدرت في 23 فبراير لعام 2005 قانونا يؤكد في مادته الرابعة علي الدور الايجابي والوظيفة الحضارية للاستعمار والنظام الاستعماري!. ولقد تبني البرلمان الفرنسي هذا القانون بالفعل وفرضه علي أولاده الصغار في المدارس !! أثناء فترة حكم ساركوزي- القزم الاستعماري الطموح . وأمامنا نماذج واقعية تدعو للتأمل والحيرة بين التصديق من عدمه: فقد أكد رجل الأعمال محمد أبوالعينين أمام المحامي العام الأول لنيابات الإسكندرية أنه قام بالتنازل عن 6 أدوار من المبني المخالف (!!) لعمل مستشفي للفقراء، وتخصيص دورين لغسيل الكلي، بالإضافة إلي قيامه بسداد غرامة المخالفات 25 مليون جنيه، وتنازله عن 27 مترا ونصف المتر بالأدوار المخالفة قيمتها 200 مليون جنيه. بل إن الحكومة الحالية (حكومة عصام شرف) بصدد إصدار مرسوم بقانون يقضي بإسقاط الشق الجنائي عن المستثمرين، الذين حصلوا علي أراض (آلاف الأفدنة) في النظام السابق بالمخالفة للقانون ويرون في ذلك نقلة نوعية لجذب الاستثمارات !! معتبرين أن بعض المستفيدين من هذه الأراضي كانوا ضحايا فساد بعض المسئولين . (لاحظ أنهم :ضحايا، لاحظ كذلك "فساد المسئولين " أما المستثمرون فليسوا بفاسدين !) فقد أكد اللواء عمر الشوادفي، رئيس المركز الوطني لاستخدامات أراضي الدولة، إنه لا مانع من إعادة الأراضي التي حصل عليها بعض رجال الأعمال بالمخالفة للقانون مقابل التنازل عن الشق الجنائي . (المصري اليوم 19/5/2011). بل لقد " نجح أرجو ملاحظة الفعل نَ جَ حَ الذي اختاره الصحفي كاتب الخبر!) أحد المستشارين وقاضي التحقيق بوزارة العدل في إعادة 400 فدان للدولة !! من 15 نائبا من أعضاء مجلسي الشعب والشوري السابقين حصلوا لأنفسهم ولآخرين علي قرابة 400 فدان من أراضي ملك الدولة من وزير الزراعة السابق أمين أباظة بالمخالفة للقانون. وعرض المحقق عليهم التنازل عن تلك الأراضي لعدم تحريك الدعوي الجنائية ضدهم!! فتنازل النواب عن تلك الأراضي (وجب شكرهم علي قبول التنازل )"! قطار الرحمة يصل إلي مبارك بل لقد وصل بنا قطار الرحمة إلي أن طلب المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض من شعب مصر أن" يسامح ويرحم الحاكم السابق وأسرته، فعادة عند قيام أي ثورة يتم إعدام الحاكم أو نفيه خارج البلاد، لكن الإسلام يعلمنا أهمية العدل والإحسان " وفي حقيقة الأمر، ما يقترحه سيادة المستشار لا يمت للعدل بصلة من قريب أو بعيد، لا في الإسلام ولا في المسيحية، وهنا يذكرني قول الرسول عليه السلام "لعن الله قوما ضاع الحق بينهم، إذا سرق غنيهم تركوه، وإذا سرق فقيرهم، أقاموا الحد عليه. والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها». ووصلنا إلي الذروة، عندما طالب الحاخام الإسرائيلي عوفديا يوسف، بالعفو عن الرئيس المخلوع، الذي يعتبره كنزا استراتيجيا لا ينضب بالنسبة لإسرائيل . إن ما حدث في مصر ليست جرائم تعد علي أطيان أو أراض زراعية، أو قبول رشاوٍ أو عمولات بالملايين، ولكنه إجرام تاريخي وتخريب سياسي لا مثيل له في تاريخ الوطن الحديث، استلزم لإيقافه قيام ثورة شعبية. وكما قال الأستاذ المعلم محمد حسنين هيكل، إن التحقيق فيما وقع في ظل النظام السابق سياسي أولا، وجنائي بعد ذلك . يبقي السؤال في حاجة لإجابة حاسمة :"المصارحة فالمصالحة " علي مصطبة العمدة؟ أم "المساءلة و المحاسبة" وإعمال القانون؟ كما اقترحت أستاذة القانون تهاني الجبالي نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا- أم تري أن "مصر محسودة" كما قال الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر السابق؟