عندما سمعت لأول مرة في اول الثمانينات عن أن فنانا مصريا اتجه إلي النيل، وألقي بتماثيله إلي جوفه، توقفت كثيرا عند هذه المروية، لكن أرجعتها إلي أنه ربما لجأ إلي النيل للشكوي، فالنيل في حياة المصريين كائن حي يتحدث إليه الكافة، او أنه أراد وضع خبيئته لدي حافظ الاسرار من فجر التاريخ. إنه جمال السجيني، الذي كشف الملصق الإعلاني، الذي زرعته، قاعة الزمالك، في مدخل معرضه الاخير، عن ملامح لشخصية مبدع مصري أصيل، فقراءة بسيطة لعناصر الملصق، تري قواماً مثالياً لشخص، بملابس بيضاء ناصعة، يمتطي دراجة ويسير، ورغم أنه يقود دراجته بيد واحدة، الا أنه يحافظ علي توازنه، مندفعا، في شوارع الزمالك، فيما تقوم يده اليمني بوظيفتين، حيث تحتضن تمثالاً من أعماله التي سوف نراها بالداخل، وبأطراف الاصابع يقبض علي حقيبة، تخص عمله بكلية الفنون الجميلة، وحتي يزيد المشهد تركيبا كأنه يشكل عملا ميدانيا صرحيا، يصنعه بنفسه لنفسه، فقد تمسك بغليونه، ومرتديا نظارة سوداء أنيقة، صورة للفنان تتجاوز النموذج، إلي فضاء يجمع بين الخيال والواقع في آن. قراءة هذه الصورة، بدون عناء، تمنحك مفاتيح شخصية الفنان والانسان والاكاديمي، ويشترك مع أغلب جيل ثورة يوليو، في سنة الميلاد عام 1917، وبمجرد أن تأكد من تركه للعقد الثاني من عمره، حصل علي دبلوم فن النحت من مدرسة الفنون الجميلة العليا 1938، القاهرة ، قبل أن تصبح كلية الفنون الجميلة التي نعرفها الآن، وتمتد بها الدراسة إلي 5 سنوات. صوت الفنان عرفت الحياة الفنية في الاربعينات الليبرالية، جمال السجيني عارضا في المعارض الجماعية ومشاركا في العمل العام علي طريقة الفنانين الثوريين، فبمجرد توقف أزيز صوت الطائرات في حربها العالمية الثانية، دعا جمال السجيني، إلي جماعته الفنية (صوت الفنان) والتف حوله زملاؤه حديثو التخرج، بالإضافة الي مجموعة من طلبة مدرسة الفنون الجميلة، بينهم عبد القادر مختار، عبد الفتاح البيلي، صلاح عبد الكريم، جاذبية سري. فيما فتحت نقابة الصحفيين أبوابها أما أعضاء الجماعة، تستقبلهم في أروقتها، لعدم وجود، مقر يجمع أعضاء الجماعة التي يمثل الطلبة منهم نسبة كبيرة، ومع ذلك لم يتجاوز نشاطها التثقيف العام، عن طريق اللقاءات المشتركة، والتجمع الشكلي، بعيدا عن وجود منهج يحدد مسار، أو خطة أو أهداف، تعتمد علي فلسفة واضحة. وان كان اسم الجماعة أثار فضول الناقد والفنان محمد صدقي القبانجي، عندما أطق علي المجلة التي رأس تحريرها صوت الفنان، عام 1943 . في منتصف الأربعينات نشط معلم آخر من رواد التربية الفنية، ومن أصحاب الأفكار التقدمية في الفن ومناهضة المذاهب الأكاديمية وهو الفنان يوسف العفيفي، فالتف حول أفكاره جماعة من الفنانين بينهم الفنان جمال السجيني مؤسس جماعة صوت الفنان التي ما لبثت أن انفضت بعد المعرض الأول، وسرعان ما نشأت جماعة الفن الحديث عام 1946 والتي واصلت نشاطها بحيوية حتي 1955، وضمت فنانين مهمين من أمثال جاذبية سري ويوسف سيده وحامد عويس وعز الدين حمودة وجمال السجيني وزينب عبد الحميد، وإلي جانب نبيه عثمان ووليم اسحق وصلاح يسري. شخصية مصر وتنفرد جماعة الفن المصري الحديث التي انطلقت مع أول معارضها في عام 1946م بأنها جمعت في نشاطها بين فترة ما قبل الثورة وبعدها وكانت في نشاطها ترتبط بمنظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، في إطار فكري يتحيز للطبقات العاملة من المجتمع ويتبني نضالها وكفاحها من اجل حياة أفضل والبحث التشكيلي الجمالي عن شخصية فنية مصرية مستقلة، وان كان لأول مرة يتجه النشاط الفكري الإبداعي داخل جماعة فنية في مسارين، الأول استهدف الوصول الي ملامح شخصية مصرية مستقلة، وطابع قومي يميز الفن المصري، لكن من خلال الأساليب الغربية الحديثة، ويمثل هذا الاتجاه عز الدين حمودة، يوسف سيده، زينب عبدالحميد، صلاح يسري، أما المسار الثاني فيمثله سيد عبدالرسول، وجاذبية سري فقد كان فنانو هذا الاتجاه يبشرون في أعمالهم بالواقعية المصرية الحديثة في الفن، وحرص أفراده علي البحث التقني والجمالي في إطار الالتزام بقضايا البناء الاجتماعي الوطني، باعتبار الفن التشكيلي مكوناً أساسياً في الثقافة المصرية الشعبية، كموروث حضاري، للدرجة التي تصل الي ان يعلنوا عن طموحهم وهو التثقيف بالفن، كما اتخذ هذا التيار من داخل الجماعة موقفا رافضا من تقليد أساليب المدارس الفنية الحديثة التي تتجه الي تحطيم الجسد الإنساني كما في الدادية السريالية والوحشية. بمجرد عودته من روما وحصوله علي دبلوم فن النحت من أكاديمية الفنون الجميلة وأكاديمية الميداليات بروما عام 1950، عمل مدرسا لفن النحت بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1951. التقي جمال السجيني مع التغيير والتحول الذي أحدثته ثورة يوليو، في مساحات عديدة، فعبر عن النبرة الثورية التي غلفت فترة منتصف الخمسينات، للدرجة التي تجعل الناقد كمال الملاخ يقول: "لقد اكتملت أدوات التعبير عند السجيني بعد ثورة 1952، واصبح اسمه ملء الأسماع وسيرته وفنه علي كل لسان متزعما حملة الهجوم علي الفن المحافظ وأصحاب الاساليب الاكاديمية". فروع النحت جمع السجيني بين أغلب فروع النحت، من تناول شخصيات، إلي أعمال ميدانية صرحية، كما تميز في فرع منسي وهو الطرق علي النحاس، ليحول هذا الفرع المنسي، إلي كتب مفتوحة للمعرفة عندما زاوج بين تقنية النحت البارز، والرسم وتضمين العمل ايضا، كتابات ونصوص تحمل رسائل، فقد سعي السجيني إلي أن يكون مقروءًا لدرجة المباشرة، في مراحله الأولي، متخذا من الشرعية الثورية، التي كانت تحكم مجتمع الخمسينات، وبداية الستينات، دافعا للإبداع. تميزت ملامح فن السجيني، بوضوح الفكرة، والتعبير عنها بوحدات بصرية واضحة الدلالة، فعندما يجسد تمثالا لفنان الشعب سيد درويش، نراه قد اختار ان يجعله جالسا، يتكئ علي آلته الموسيقية (عوده)، مهموما، مفكرا، وكأنه حكيم يبحث عن حل لأمته، وعندما يتصدي لتمثال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، يختار التكعيبية أسلوبا للعمل، تلك التي تتسم بالخطوط الحادة والقوية، علي نحو يتفق مع شخصية الرئيس الراحل عبد الناصر، لكنه عندما ينحت تمثالا يجمع بين آل وانلي سيف وادهم، يلجأ الي اسلوب رمزي، فيضع بورتريها لادهم فوق بورتريه لسيف، في دلالة علي أنهما كانا فوق رأس بعض، وكأنهما توأم. لكنه في الميداني، يبحث عن الحركة، التي نراها في تمثاله العبور، يجعل الجندي المحارب يكاد يندفع الي الامام، بينما يستمد قوة الدفع من تجديف محاربين يشقوا بمركبهم المياه، فيما يشغي السطح بالرموز، والجمع بين الخط الهندسي الحاد، والعضوي اللين، والملامح الصارمة، الحاسمة. رحم الأم التقي جمال السجيني مع الفنان العالمي هنري مور، في المجموعة التي تناول فيها الامومة، كموضوع فني إبداعي، وهو لقاء في الخط فقط، العضوي اللين، والذي يتسق من طبيعة رحم الام، وهو ما يؤكده، تركه لفراغات داخل العمل الفني، وكأنها طاقات فتحت علي الكون ككل، بينما استقرت الكتلة علي الارض في ثبات. أحب السجيني العمل الأكاديمي، وأحبه الدارسون، سواء في الاسكندرية عندما تولي رئاسة قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1958، أو في القاهرة التي رأس فيها قسم النحت بكلية الفنون الجميلة عام 1964، لدرجة أنه حين نال منحة التفرغ في مارس 1964، تركها وعاد لشغل منصبه كرئيس لقسم النحت حتي إحالته للتقاعد عام 1977، ويبقي أن جمال السجيني جمع بين الإبداع والعمل الاكاديمي بامتياز نادر، وتفاعل مع واقع مجتمعه، سواء برؤاه الإبداعية، أو بنزعته تجاه العمل العام، علي نحو صادق.