لم يكن فيلما بالمعني الصحيح ولكنه مجموعة من اللقطات التوثيقية سجلتها كاميرات الهواة بعدة محافظات بعد أن منعت أجهزة الأمن وسائل الإعلام من تصوير الوقفة الاحتجاجية. عفوا ليس المقصود وقفة ضمن أحداث ثورة 25 يناير 2011، ولكنها وقفة احتجاجية بدأت من الاسكندرية وامتدت للقاهرة ومختلف محافظات مصر في 13و14 يونية 2010 . كانت دعوة علي الفيس بوك انطلقت من جروب كلنا خالد سعيد للخروج بملابس الحداد السوداء ، لباها آلاف الشباب والفتيات، ليقفوا بامتداد شواطئ مصر، وجوههم مسددة نحوماء البحر أوالنهر في صمت وحزن ، بعضه علي خالد سعيد ومعظمه علي حال وطن في طريقه للغرق.. تشاركوا وجدانيا ربما دون أن يهتفوا بكلمة واحدة، بل وتقريبا دون أن يحدث أي منهم الآخر . يكفي أن يعرف كل منهم أنهم كثيرون وأن التفاعل الذي يجري بينهم عبر برامج الشاتنج ليس مجرد كلام في الهواء ولكنه يمكن أن يتحول إلي لقاء جماعي قد لا يحدث فيه أي شيء مؤقتا. ولكن أجمل ما فيه ما يحمله من معان مشتركة وأحاسيس صادقة : " نحن معا جميعا متحدون حزاني وغاضبون ". لكن بعد هذا اللقاء تأكد للجميع أنهم لن يعودوا بعد يائسين ولا منعزلين ولا مقهورين . فبوابة الرجاء قد انفرجت قليلا ودخل منها شعاع من النور مس القلوب فملأها بالحماسة والأمل ...يا الله هل يمكن أن يتحول هذا الواقع الكئيب السلبي البائس الراكد إلي حياة مفعمة بالتآلف والتراحم والتواصل والاتحاد الحقيقي.. هذا هوما حققته بالفعل تلك اللحظات النادرة .. وهذا هوما صورته الكاميرا ليتم بثه في لحظات علي الفيس بوك فيصل في ثوان إلي الآلاف الذين حضروا تلك اللحظات المجيدة.. وإلي ملايين لم يحضروها.. ولكن الجميع عبر هذه اللقطات وصلتهم الرسالة. هذه هي قوة الكاميرا التي التقطت في لحظات نادرة حالة صادقة ومعبرة ومؤثرة من حياة شعبنا فتمكنت من أن تبث في النفوس الثقة والأمل. جهود مستمرة كانت هذه اللقطات جزءا من جهود متوالية في أفلام توثيقية وتسجيلية وحركة مستمرة لم تهدأ للسينما المستقلة طوال مايقرب من عشر سنوات . وإذا كانت صناعة السينما العريقة في مصر قد أضافت شيئا للعقلية الجمعية الثقافية ، فقد أضافت تاريخا وتراثا لصناع الفيلم بكل أنواعه وتخصصاته وانعكست علي أجيال وراء أجيال . حاول البعض من دعاة الرجعية وعبدة القديم أن يسخروا من إمكانيات الأجيال الجديدة وقدراتها الفنية والفكرية . وراح مسئولون كاذبون وجهلة ومدعون في مؤسسات عامة وخاصة يطلقون التصريحات الجوفاء عن أزمة السيناريوالتي تعوق السينما ، مدعين أن أعمال الكتاب الشبان ليست علي مستوي جيد لهذا لا يجد المنتجون ولا السادة الفنانون أوالممثلاتية منهم علي وجه الخصوص فنا محترما يقدمونه مع أنهم لا يبحثون إلا عن التافه والرخيص بينما تمتلئ أدراج مكاتبهم بأعمال مكدسة قيمة لشبابنا الواعد لا تجد من يتبناها أويتقبلها ويتفهمها أوحتي يقرأها . كان السادة المسئولون عن السينما يروجون لهذه الأفكار الكاذبة فتنتشر وتجد رواجا عند المرددين من الأتباع القطيع . وكنت أخوض معهم جدلا عقيما لا ينتهي حول عدم قدرتهم علي تذوق إبداع الشباب ولاالتواصل معه . وأنهم يدورون في فلك النجم ولا يتحمسون إلا للأعمال التي لا يري سيادته فيها أي قيمة إلا لوكانت تثبت دعائم نجوميته وترفع أسهمه في الشباك طبقا لرؤيته ومعاييره . ولكن شبابنا السينمائيين في حقيقة الأمر كانوا يعانون ما يعانيه زملاءهم في كل المواقع والمجالات من جهل وتجاهل ، وأبواب مغلقة علي الكبار والخدم وإجحاف في الحقوق المادية والتقدير الأدبي . ولكن كل ما أحاط بهم من ظروف قاسية ومن إهمال لإبداعهم لم يتمكن من قتل مواهبهم ، بل كان يزيدهم حماسا ورغبة في التحدي ، فتتوالي كتاباتهم المتميزة ومحاولاتهم الجادة في التعبير عن ذاتهم ومجتمعهم وفنهم، وإذا كانت السينما الروائية وأبواب الاحتراف قد انسدت أمامهم فإنهم وجدوا تعويضا كبيرا في أفلام الديجيتال أوالسينما المستقلة . كانت رئاستي للجنة الاستشارية لإنتاج الأفلام القصيرة بهيئة قصور الثقافة خلال العامين الماضيين كاشفة لي عن مخزون رائع من إبداع الشباب، وأمكننا أن نعثر من بين عشرات السيناريوهات المميزة علي مايزيد علي عشرة أعمال ممتازة وجديرة بالتحقق ومناسبة للإمكانيات الإنتاجية المتاحة. وتم بالفعل إنتاج أربعة منها وفي الطريق مجموعة أخري . وسيط ديمقراطي تأكدت من خلال هذه التجربة مارصده محمد ممدوح في كتابه ديمقراطية الوسيط -2007- بأن السينما المستقلة أتاحت إنتاج أفلام تخترق المحظور وتقدم نمطا مختلفا عن السائد، قامت علي واقع الاصطدام والجرأة مقدمة عدداً من الأفلام الروائية القصيرة والطويلة أحياناً والتسجيلية التي اختلفت في أكثرها عن السينما السائدة وحاولت التمرد علي التقاليد المهيمنة في صناعة الفن . وأن هذه الأفلام أمكن لها أن تصنع تيارا وأن تشجع الفنانين الشبان الجدد علي التحرر من القديم والتعامل مع الفن بمفهومه العميق الصحيح باعتباره ثورة علي القواعد والتقاليد القديمة البالية . وسط إنتاج غزير كانت الأعمال الجيدة تكشف عن تميزها وأصالتها فرصدنا العديد من روائع الأفلام المستقلة القصيرة ومنها سنترال لمحمد حماد وملكية خاصة لروجينا بسالي وقلعة الكبش لأمل فوزي واسمي جورج لمحسن عبد الغني وقطار الحياة لحسين شكري وغيرهم وغيرهم . ومع دوران رحي معارك أومظاهرات التحرير ومختلف ميادين مصر التي خاضها ملايين السلفيين العزل في مواجهة رصاص النظام وبلطجيته كانت تدور معركة أخري بالكاميرا تسجل شجاعة الأبطال وصور الخزي والعار لزبانية الدولة . وسرعان ما حمي وطيس معركة الصورة ليحاول أذناب النظام ثم فلوله بعد إنهياره أن يستخدموا سلاح الكاميرا في عرض وثائق مزورة ومزيفة للتأثير علي الرأي العام ، كان لها بالمرصاد عشرات الأفلام التي تكذب زيفها بالوثائق والصور المؤيدة للثورة والمحفزة لها والرافعة من معنويات أبطالها والكاشفة عن قوة أبطالها . وتوالت أشرطة الأفلام بشكل متلاحق ما بين توثيقية لأحداث الواقع ، وتسجيلية تسعي للتعبير عنه برؤي فنية ، أوساخرة بتوظيف أشرطة الصوت أوحيل برامج الكمبيوتر ، أوذات طابع برامجي باستغلال التعليق مع الصور والأخبار . شاهدنا جميعا لقطات الشاب الذي يتصدي وحده للعربة المصفحة فيجبرها علي التراجع ، أومن يقف في وجه صاروخ الماء المنطلق من سيارة الإطفاء لتفريق المتظاهرين ، وذلك الذي يلقي بنفسه في وجه فصيلة بأكملها من جنود الأمن المركزي ، ثم صور الضحايا التي تدوسها سيارات الأمن وغيرها وغيرها من اللقطات . كانت كاميرات الهواة تلتقط صورا للواقع الحقيقي في مختلف الأماكن ومختلف ساعات النهار في كم لا يحصي من الأفلام توثق للثورة. وبدأت قنوات الأخبار تستعين بها بعد أن كان معظمها لا يراه سوي جمهور الإنترنت . إرهاصات إبداعية قام الناقد الشاب محمد أحمد خضر بجمع عشرات اللقطات التي وثقت للثورة وما صاحبها من أحداث وما أذيع خلالها من أشرطة تكشف عن وقائع فساد ومحاولات وأدها من قبل الثورة المضادة ومنها أفلام تحمل توقيعا مثل شهداء الثورة لرائد ربيع ، وأخري مجهولة المصدر وإن كانت تعبر عن موهبة حقيقية ومنها فيلم الثورة المضادة وهوعبارة عن ريبورتاج في منتهي خفة الدم والسخرية مع شاب متخلف يدافع عن النظام البائد . وتشير بعض التعليقات علي الفيس بوك إلي أنه ممثل ولوكان هذا حقيقيا فهوفيلم يكشف عن موهبة تمثيلية رائعة . كما أجرت الزميلة فايزة هنداوي حوارا مع المخرج محمد حمدي حول فيلمه سجل يا زمن الذي اعتبرته أول الأفلام التسجيلية التي تم الانتهاء منها عن ثورة 25 يناير . وسرعان ما أقيمت مهرجانات تضمنت عروضا لأفلام عن الثورة منها ما أقيم بالجامعة الأمريكية أومهرجان ماسكرز بمسرح روابط، ومازالت تتوالي الأخبار عن مهرجانات ومشروعات أفلام تسجيلية أوروائية قصيرة لا تعد ولا تحصي يبدأ بثها علي شبكة الإنترنت أوتشييرها علي الفيس بوك أويتم الإعداد لها وتجهيزها للمشاركة في المهرجانات الدولية . ربما يحتاج البعض وقتا ليوظف مادته التي سجلت حماس اللحظة وعفويتها ليحقق من خلالها فنا حقيقيا يعيش مع الزمن . ولكن السينما المستقلة كشفت علي أية حال للشباب الإمكانيات المهولة التي تتيحها لهم كاميرات الديجيتال في التعبير. وكان لطبيعة هذه الميديا وطبيعة مبدعيها ومتلقيها الشباب أن تعبر بالفعل عن روح الثورة من قبل أن يلوح لها أثر . وأن تدعو لمقاومة الفساد والسلبية والاستسلام للقمع في هذا البلد إلي جانب تقديم صورة حقيقية عن واقع البلاد غير تلك الزائفة التي كان يقدمها الإعلام الرسمي.. وكانت بديلا ثقافيا وإعلاميا وتنويريا لجيل من شباب الإنترنت. ومع قيام الثورة تفجرت معها حالة إبداعية غزيرة من الأفلام الرقمية مازالت تكشف عن نفسها وتتفاعل مع الواقع ومتغيراته . وتسعي للتعبير عنه بمزيد من الحرية التي شاركت هي في صنعها كسينما حققت لنفسها الاستقلال وامتلكت ديمقراطية الوسيط قبل أن يتحقق هذا للوطن بأكمله.