يشهد الواقع الثقافي المصري ميلادًا صاخبًا لتيارات مسرحية مغايرة، تثير الجدل والتساؤلات حول امتلاكها لموجات الوعي والفكر والجمال، وإدراكها لأسرار لغة التواصل، واشتباكها الحار مع قضايا الناس وأحلامهم. في هذا السياق تأتي الارتجالية المسرحية شيزلونج، التي يقدمها مسرح الشباب كنتاج لإبداعات ورشة «حلم الشباب»، التي تضم فريق عمل شديد التميز، مسكون بالوهج والبريق والطموح، الذي أثار إعجاب المسرحيين والنقاد والجمهور، وجاء كتوقيع علي وثيقة ضمنية تشهد بشرعية الانتماء إلي عالم الفن الجميل. وعي ثائر مخرج هذه التجربة هو الفنان المتميز «محمد الصغير»، الذي يمتلك وعيًا ثائرًا وخيالاً خصبًا، وبصمات شابة، ولغة فنية شديدة الحرارة تنتمي لعذابات وتناقضات جيل يبحث عن المعني، وهو أيضًا يمتلك خبرة الهواية المدهشة، فقد شاهدته كممثل في كثير من عروض مسرح الجامعة، التي تأتي دائمًا كحالة فريدة من الجمال الآخاذ المسكون بالمشاعر النارية الصاخبة. وفي هذا الإطار يشير محمد الصغير في كتيب العرض إلي أن أستاذه شادي سرور- المدير الحالي لمسرح الشباب- هو أول من وضع قدمه علي خشبة المسرح كممثل، وهو أيضًا أول من وضع قدمه علي خشبة مسرح الدولة كمخرج، ليكون جزءًا في حلم من أحلام الشباب، وكان ذلك من خلال عرض شيزلونج، الذي يأتي كمحاولة لإعادة تركيب صورنا الداخلية بشكل يجعلنا أكثر صلابة وثقة في امتلاك الحياة. من المؤكد أن فلسفة هذه التجربة ترتكز علي استراتيجية واضحة تهدف إلي صياغة أجيال شابة تتفاعل مع إيقاعات اللحظة، وتتجاوز مأزق الجمود والغياب، تلك الفلسفة التي يتبناها المخرج شادي سرور الذي حقق حلمًا ظل يراوده طويلاً، وهو إقامة ورشة للشباب تنطلق من أفكارهم ورؤاهم وتستوعب طاقاتهم في مجالات التمثيل والإخراج والتأليف والموسيقي والرقص والديكور، لتوجيههم إلي الوسط الفني، واستثمار العشق التلقائي المتمرد ودفعه إلي مسارات الصعود والاحتراف. هكذا كان ميلاد ارتجالية شيزلونج هو أول إنتاجات ورشة حلم الشباب، التي تحمل مؤشرات نجاحات قادمة.. ستثير أصداء مترددة، وتبعث بموجات الحياة في أعماق وجودنا المسرحي. فإذا كان مركز الإبداع الفني الذي يديره المخرج المتميز خالد جلال، قد انطلق إلي آفاق رحبة، وأصبح نقطة فارقة في مسار المسرح المصري، حين استعاد الجمهور وبعث التواصل، وحقق معادلة المسرح الصعبة.. باعتباره فكرًا وفنًا وفرجة وابهارًا، فإن هذه الرؤي سوف تمتد بقوة عبر الميلاد الخصب الجديد لورشة حلم الشباب. تشكيل جمالي تندفع موجات الحالة المسرحية في إطار تشكيل جمالي ثابت، لكنه يموج بالحركة والاندفاعات والامتداد والصعود والهبوط، الشيزلونج يأتي كتعبير رمزي يحيل دلاليًا إلي مجال الطب النفسي، الخلفيات السوداء تكشف أسرار صخب الألوان، اللوحات والبورتريهات المعلقة تشاغب تاريخًا من الفن والبوح والجمال، والبساطة البريئة تعانق الخطوط والمنحنيات، والكتل الخشبية الصغيرة علي اليمين واليسار تموج بسحر الطفولة والبدايات، وتظل الأيدي المرفوعة كاشفة عن انطلاقات نحو الضوء والمسار، بينما تتضافر الموسيقي الناعمة مع الحركة والخطوات ويظل تيار الإيقاعات باعثًا لمعني الترقب والانتظار. وعبر وهج الكوريوجرافيا وخطوطها اللاهثة ينطلق فريق العمل إلي تشكيلات دائرية مسكونة بدلالات القهر والغياب والعذاب، والتي تتوازي مع إيقاعات منتظمة وأصوات مجردة تأتي كتدريبات الفوكاليز، وتظل الرسائل الضمنية الصامتة، تتفجر عبر العلاقة الساخنة بين الضوء والألوان والموسيقي والأجساد. عبر كسر مفاجئ للإيهام يتقدم الطبيب ليخاطب الجمهور بشكل مباشر، مؤكدًا أن ما نراه الآن هو بروفة تسخين قبل بدء العلاج النفسي بأسلوب السيكودراما، لتفريغ الطاقة السلبية عن طريق الموسيقي والرقص والتمثيل، وهكذا نصبح داخل المصحة النفسية، حيث الطبيب والشباب والشابات، وقضايا واقع ضاغط يستلب روح الإنسان ويضعه في مواجهة مجتمع محكوم بسياسات مراوغة، اقتصاد متوحش، وفكر مرتد، يأخذ أبناء النيل والأهرامات إلي دوائر الصمت والغياب. في هذا الإطار نندفع عبر الحرارة والوهج إلي اختراق مدهش لقلب اقتصادنا المهدد بالانهيار أمام غزو الإنتاج الصيني، حيث لعب الأطفال والسبحة وسجادة الصلاة، وصولاً إلي الحلاق الصيني والزفة الصيني والزوجة الصينية، ورغم جدية التيمة إلا أن أسلوب الطرح المسرحي يأتي شديد البساطة والابهار، يموج بالتلقائية والرشاقة، وإيقاعات الجروتسك الساخرة، حيث الوعي والكوميديا، والضحكات المسكونة بملامح التراجيديا وعذابات المأساة التي تذوب في صخب الحركة والإيقاع، وتتضح جماليًا عبر الأيدي والأرجل والأجساد المبعثرة، والإنسان الذي تحول إلي شظايا مهملة. صخب دلالي كانت التشكيلات الجسدية الصامتة تبعث صخبًا دلاليًا متدفقًا، يتصاعد بقوة ليبني نصًا آخر موازيًا.. يكشف ويبوح ويروي عن انكسارات وأحزان وأحداث وطموحات، وبحث بائس عن الخلاص والمسار، وفي هذا السياق تموج خشبة المسرح بحرارة الأجساد وطاقاتها المتوترة، لنصبح أمام لوحة تشكيلية غزيرة التفاصيل، مرسومة بالجسد والنبض والألوان والإيقاعات، ويذكر أن لغة المخرج قد تباعدت عن منطق الفصل الحاد بين المشاهد، واتجهت إلي تقنيات المزج والتضمين والتوازي والتداخل والتقاطع، لذلك امتدت الرؤي ببساطة، واشتبكت مع إشكاليات المرضي الذين جاءوا كاختصار بليغ لعذابات شباب الجيل الطالع. بعثت شخصيتا زمبليطة وصديقتها حالة من الوهج النقدي اللاذع لمفاهيم النساء وعلاقات الرجال في الحارة المصرية، وجاءت الصياغة الجمالية للأبعاد النفسية والشكلية والفكرية، لتكشف عن الخيال الخصب والابتكار، وظل هذا الثنائي الجميل المرتبط بالشرفة الصغيرة، وإعلانات جريدة المصري اليوم، يبعث تقاطعات ثرية عبر المشاهد المتوالية، وكان الأداء التمثيلي المختلف هو كشف عن الموهبة، وعن عشق الفن وحرارة الاشتباك مع الحياة. تميزت صورة المشهد المسرحي بالتنوع والثراء، وكانت التفاصيل الغزيرة التي يبعثها تفاعل لغة الجسد مع دلالات السينوغرافيا والضوء والحركة، باعثة لتيارات من التصاعد والوهج، لذلك جاء أسلوب الانتقال من العام إلي الخاص.. ناعمًا بسيطًا وتلقائيا، أما العزف علي أوتار الأعماق، وتفجير عذابات الكبت والاحباطات فقد انطلق عبر الضوء والموسيقي والحوار، حين يتحدث الطبيب مع الصغيرة الجميلة المعذبة بجهل أبيها، الذي استباح حريتها وهزم أنوثتها واتجه بلا وعي إلي اختزال كيانها، وظل الفارق الشاسع في رؤية الأب لأخيها الذكر.. يدمرها. وعبر الغناء والرقص نتعرف علي حيلتها الدفاعية حيث اعتادت أن تتهم الرجال عمومًا بالتحرش بها، واستطاع الطبيب أن يحول تيارات غضبها العارم إلي امتلاك للذات والمعني، وعلمها أن تعبر عن نفسها وترسم وترقص وتغني. عذابات شابة في سياق متصل يتقاطع السرد مع التجسيد لنلامس عذابات الشابة الباحثة عن الحب والإعجاب.. تقنيات الفلاش باك تفجر تداعيات الأعماق لنتعرف علي الطفلة الدبدوبة التي يشاغبها الصغار، يسخرون منها ويجرون.. لتقع وتبقي دموع العذاب، وفي الجامعة أهداها زميلها وردة.. وغني لها وقال أحبك، فامتلكت سعادة الوجود، لكن المفارقة العنيدة تكشف لها أن الوردة والحب لم يكونا إلا لعبة سخيفة يضحك عليها الأصدقاء، وتبقي هي أسيرة إحساس أنها إنسانة فرز ثالث. تأتي الصياغة الجمالية لعذابات الفتي الارستقراطي لتبعث ثورة من الفن والوعي والجمال، فهو يعيش رفاهية صارخة، لا يعرف المشاكل. لذلك فهو يبحث عن مشكلة، ترك الفيلا والكافيه وذهب إلي القهوة البلدي ليري الشحاذين والفقراء.. التشكيلات ترسم أبعاد واقع عشوائي مسكون بالمرض والإدمان والشذوذ، الحارات الضيقة كانت في عيونه أجمل من منتجعات أوروبا، محطات المترو والزحام ورائحة العرق، كانوا أكثر إثارة من الهدوء وعطور باريس الأنيقة، وتظل لغة الإخراج مفرداته المتميزة تجسد وجودًا استثنائيا لقبح الفقر وجدل الحب والرغبة، أما التوظيف المدهش لأغنية أم كلثوم «وقف الخلق جميعًا» فهو يأتي كمفارقة ساخرة تفجر كل تناقضات الهزائم، وتأتي الأغنيات الهابطة والرقص الخليع ليكشف عذابات أجيال تواجه الغياب والضياع، وأخيرًا يكتشف الفتي أنه يبحث فقط عن علاقة إنسانية دافئة، وأصدقاء يمنحونه الثقة والمعني. حضور مدهش تمتد الاشتباكات الجمالية مع وقائع وجودنا الحالي حيث البيئة والتلوث والكيماوي، القمح والأرض والمجاري، الرياضة والتشجيع وشيكابالا وأبوتريكة، ويأتي ذلك عبر الحضور المدهش لرؤي الإخراج التي تباعدت عن المباشرة وامتلكت خصوصيتها الفريدة. وفي نفس الإطار تأخذنا هارمونية الانتقالات الناعمة إلي مشهد شديد الدلالة مشحون بالتساؤلات والتناقضات حيث الفتي الذي يتذكر أيام جده، لتشهد خشبة المسرح تيارات عنيفة من الجدل بين الحاضر والماضي، الذي يطل علينا عبر صياغات جمالية كاشفة عن مخرج يمتلك أدواته، فيواجهنا بصباح ناعم، ورجل يعشق الحياة ويبعث موجات التفاؤل التي تؤكدها أغنية.. يا صباح الخير ياللي معانا..، إيقاعات الحركة والصوت تأخذنا إلي صدمة مفاجئة وتنتقل إلي حاضر مهووس مسكون بأصداء متوترة تتبلور في.. صباح الزفت، روح شوفلك شغلانة، وتمتد لغة المونتاج السريعة لتتجاوز مفاهيم الزمن وتنقلنا إلي الست ألماظية والعوامة وغناء الطرابيش، والجد الغارق في الحب والثورة والتناقضات والهتافات، ثم تتعامل لغة الإخراج المدهشة مع أغنية العنب فنراها بإيقاعات الماضي وروحه وملابسه، ثم تنقلنا إلي عنب سعد الصغير لنصبح أمام موجات التساؤلات والجدل. ورغم أن الحالة المسرحية تنحاز فكريًا إلي الماضي.. إلا أن الاستغراق في النوستالجيا يكشف عن نوع من الهروب النفسي اللاواعي إلي وقائع نتصورها جميلة.. لكن الحقيقة تحمل دائمًا أبعادًا مغايرة. تمتد حالة البوح وتتردد إيقاعات الغناء النوبي الحزين الذي يتقاطع مع قضايا أبناء الجنوب في وطن يكاد ينسي جزءًا من تراثه وثرائه وأساطيره، ويقترب العرض من نهايته، ليعيش الجمهور يقينًا عارمًا بأننا بالفعل أمام ميلاد صاخب لمخرج لامع يمتلك أسرار صياغة الدهشة وإثارة الفكر.. حيث تأخذنا الموسيقي والضوء إلي التشكيل الجسدي المتحيز لتمثال نهضة مصر.. فنري الفلاحة المصرية وهي تربط الحزام وتستعد للرقص، بينما أبوالهول ينكس رأسه في انكسار وحزن.. وفي هذا السياق نري كل أبطال العرض وهم قادمون من العمق.. يتجهون إلي التمثال، يعدلون أوضاعه، ليعود للفلاحة بريق الكبرياء والوعي والرشاقة، بينما يستعيد أبوالهول القوة والهيبة والغموض، ونصبح أمام رؤية جمالية شديدة التكثيف والبلاغة، تصل إلي أعماق الناس، وتبعث إليهم بموجات من الرسائل المتوهجة، وعبر امتداد الإيقاعات النابضة والتشكيلات الحركية، التي تجاوزت الرؤي النمطية والتقليدية.. يغني كل فريق العمل المدهش.. يتساءلون.. إزاي وأنا صبري انتهي، لسه بشوف فيكي أمل. أخيرًا.. هذه التجربة تبشر بانطلاقات واعدة لأبطالها القادمين، الذين عاشوا وقائع الوعي المثير بجماليات المسرح. شارك في العمل- أحمد مجدي، وليد الهندي، حمدي أحمد، محمد، محمد خطاب، حمدي التايه، بلال علي، سارة درزاوي، محمد أنور، مصطفي خاطر، بسام عبدالله، رانيا عبدالمنصف، ريهام سامي، ياسمين فهمي، لقاء الصيرفي، مصطفي أحمد، إسماعيل السيد، عمرو فهمي، ورامز سامي. الديكور لمحمود حنكش، الموسيقي لتامر سنجر والاستعراضات لفاروق جعفر.