حين رأيت في مرسم الفنان ممدوح عمار هذا الكم في اللوحات وهو الأستاذ المتفرغ بكلية الفنون الجميلة وجدت نبعاً لا ينضب.. بكرًا.. فوارا من رائحة الطمي وبخور الدراويش وغبشة الزار وعظمة الشجرة والجدول والغراب.. هو متأمل هائل للطبيعة.. مما يجعل إيمانه عميقا. يجد الآن متعته الحقيقية في توعية جيل التشكيليين الجدد «تلاميذه».. أما هو فقد أقلع عن الرسم منذ أربع سنوات، ويقيم معرضا في المسافر خان حاليا لتطور «عروسة المولد». ويعلق ممدوح عمار: «التي أصبحت من المحرمات من وجهة النظر السلفية»؟! ثم نسمع عن فتوي من مفتي الديار مفادها أن الفنون حرام؟! «أنظر خلفك.. إلي مسيرة الفن التشكيلي، وعظمة تراثنا الفني، واسأل نفسك أي إبداعات تسربت إلي مسام «المصري» وفاضت علي الرقعة العربية! منذ الفراعنة حتي جيلي.. الذي منه حامد ندا.. وعبدالهادي الجزار علي وجه المثال لا الحصر؟! ابن العمدة الولد الوحيد في نسيجه النفسي أمر ونهي وحس سلطوي دقيق. هو الابن البكر الذي تقع عليه المسئوليات، منذ كان حدثا صغيرا.. حمله أبوه إياها حتي «يصد» بدلا منه، ويأخذ مكانه في المستقبل.. يرسله إلي أفراح البلد وحده حتي يتمرس علي المواقف المختلفة، وهكذا كان كل من حوله.. الوالدة وإخوته البنات، والأب يبثون فيه التميز، والاختلاف والخلافة فهو العمدة الصغير حاكم البلد القادم وسيدها. أما هو«ممدوح عمار» فقد كان علي النقيض، مرهف الحس، يميل إلي التأمل يخرج في الليالي المقمرة يستمع تلك الهمسات الرقيقة حين يلثم النسيم وجه الحقول النضرة فيتمايل في الفضاء الواسع يشكل انسجاما وتألقا نادرا، ينسكب القمر بصحبة ذلك الجذل الذي يصيب الكائنات، تحيلها إلي سيمفونية جمالية طاغية لا تملك أمامها إلا أن تقول «الله». يقول: «أنا مولود في الفراغ والهواء والحرية ثم فيما اتربيت بها ومازلت محافظا عليها وصلي بخالق الكون أعمق من أن توصف علاقة بسيطة كل ما هو موجود في القرآن، وأؤمن بمقولة حسن البصري: علمت أن رزقي لن يأخذه غيري، وعلمت أن الله مطلع عليه، فاستحييت أن يراني علي معصية». علمني المستشرق «عمق مصر» جاء ممدوح عمار وهو في أولي مراحله الثانوية، استأجر له «أبوه العمدة» حجرة في بانسيون في شارع شريف، ولأول مرة يشعر بأن قيودا رفعت عنه، ولأول مرة يجد نفسه معتمدا اعتمادا كليا علي نفسه، وقدم في كلية الفنون الجميلة، فكان كلما أحس بنضوجه الفني وإقباله المتحمس للتتلمذ علي يد الفنان هدايت، يشعر بتلك الراحة حين يراجعه أبوه علي اختياره، بل كان محظوظا إذ تتلمذ أيضا علي يد المسيو «بيبي مارتان» وهو أستاذ فرنسي مستشرق كان يدرس له المناظر الخارجية - وكان من الدروس الأساسية - علمه كما يقول: أصالة القاهرة وأحياءها القديمة، وقيمها الجمالية التي تكمن في الأبنية العتيقة، احساس الشجن والحنين إلي الماضي «النوستالجيا علمني هذا المستشرق ما هو «حقيقي» يجري في أعماقي إنني «من هنا»، من لون الأخضر ده بالذات، وبيت الفلاح ده، وتلك الزخرفة الإسلامية بالشكل ده وهكذا، علمني «أستاذي» نسبة الفرد للفراغ، وضآلة الإنسان بالنسبة للكون وهو ما حققه في لوحة «لاعب السيرك» الذي يقف وحده في لوحة زيتية 1متر* 80 في وسط الحلبة في حجم عقلة الصباع في ملابسه وطرطوره يتحلق فراغ هائل خال من المتفرجين توحي بكل الدراما الموحشة، صالة السيرك في ألوان الأوكر، والأخضر والبني والأسود وتلك النقطة «الحمراء» الضئيلة الساخنة إنه صديقه «يغرق». عبد أصيل.. للحرية حين أنهي ممدوح عمار دراسته في الفنون الجميلة، قررأن يتخذ جناحي الحرية، وينطلق إلي آفاق أوسع، وأبرح.. قرر أن يذهب إلي الأقصر -إلي مرسم عبدالرسول - يصاحبه في الرحلة النحات «آدم حنين».. وهناك التقي بالفنان داخله يتعملق يسيطر. يتركز بصوت مسموع «فترة بلورت فكري التصويري، وضعت يدي وأحاسيسي علي الجمل المفيدة، وجدت نفسي وجها لوجه، مع القديم الأصيل، ومع الجديد الذي تبلور بداخلي، بسبب هؤلاء الفراعنة المتألقين، المتفردين بالثقافة والفن، وجدنا أنفسنا «آدم» وأنا في اليوم الأخير لمغادرتنا الأقصر - بعد مضي سنتين وهي فترة المرسم -يلفنا حزن صامت لا نتكلم مع بعضنا البعض وكل منا يقول في نفسه: «ياه، لو يمدوا لنا سنتين كمان.. لم نشبع بعد». بعدما طار «عمار» إلي أوروبا في الستينات، وقد تزامن سفر كثير من التشكيليين المصريين إلي أوروبا، وإيطاليا، وأمريكا، وكثير منهم فضلوا عدم العودة إلي مصر نتيجة كبت الحريات في ذاك الزمان من وجهة نظرهم وسأل نفسه آنذاك: أأكتفي بالمتعة الفنية بدون فن؟ وحين أفرغ من محصلتي المبهرة في الخارج.. ما العمل؟ بدون ضوء وعناصر بلدي وبدون الانغماس.. واللمس من «عندياتي»؟! وعاد إلي مصر ليمارس الفن بحرية. يؤكد د. عمار في تصميم: إنني عبد أصيل لحريتي.. ولكن لنشأتي الريفية جذوراً راسخة، مررت بالشك والثورة، ولكن حين تفيض الثقافة، تعود كل الأسس المترسبة في الإنسانية بمجملها أي منذ الماضي السحيق إنها حلقات متصلة منذ الجذور، سلسال من الترسبات تتكون داخلنا في بساطة وعمق، وهكذا تبادل الحب والود والوصال بين عناصر بلده الحميمة، وانسكبت في غزارة إنتاجه المتنوع بثراء وتلقائية وأريحية - إذ حين يخطر الموضوع الفني في رأسه، سرعان ما يبلغ يده ويده تبلغ الفرشاة، ذلك الموصل الجيد لذلك الإبداع المتدفق يقول: «أمسك الورقة والقلم، ينضج الموضوع وينفجر ويتحقق في «ثانية»، إذ هناك شقان، الاحساس وهو الجزء الواعي، ثم الجزء غير الواعي، وهو ما يعطي اللغة التشكيلية وأري في مسألة الفن والمحاصرة أنني طالما مولود في هذا الوقت فمن الضروري أن يكون وجداني معاصرا لزماني. الله قطع لسانه.. واستعاض بالثرثرة في الفن رسوم الدكتور «ممدوح عمار» تحمل الكثير من القيم الحياتية، والحس الإنساني العميق فهي لغته المتدفقة، عوضا عن لسانه، ثرثار في رسومه خاصة حين التحاور مع مفرد واحد والتلاعب مع هذا المفرد الذي قد ينقلب في لوحة تالية إلي «مجموع» ثم إلي موضوع «دمه خفيف»، «ساخر» مثل تيمة الأكواب وقد ظلا الكوبان في قصة حب وفي اللوحة الأخيرة الضاربة في التجريد، أوقع الكوب زميله علي الأرض، وانكسر، و«عروسة المولد»، التي بدأت بالحس الشعبي وألوانه الصارخة، وانتهت لتلك الخبرة اللانهائية في التجريد، ولكنه تجريد «يمسك بناصيته» فهو لا ينسي أبدا أن فناناً أكاديمياً أصيلاً من تلك المدرسة القديمة التي «قدست الاسكتش» وعبر «ممدوح عمار» أنه من أساسيات الفن التشكيلي والطريق الصحيح إلي علم «التشريح» وبدون من أين نتعلم النسبة والتناسب في أي شيء علي وجه الأرض. وقد نطلق علي عطاء هذا الفن «الإنسانية الحديثة»، في لوحته الصيادين والأسماك الرهيبة، وقد جردها من الشكل التقليدي وحدا إلي الأغراب، وكأنهم كائنات فضائية ولكن حافظ علي ذلك التكوين الموحي بالتعاون والإنسانية نحو بؤرة السمك الذهبي. تسبق تارة الفنان الفرنسي «روروا» من المدرسة التأثيرية 1871 - 1958م حيث يحوط أعماله بذلك «الكنتور» أو الخطوط السوداء واستدراره لضوء يشع من داخل الجسم وتلك الألوان الحذرة لإرساء لب الفكرة والموضوع. اللون عند د. ممدوح يخضع تماما لحسه النفسي، ودرجة الحزن أو الشجن أو التأمل الفلسفي، أو الوحدة، فهو مرآة حساسة وهشة تعكس ما بداخله فهو يتأثر بزوجة فنانة تعبر بقطع القماش والإبرة، في حساسية مرهفة يحمل عبئا جميلا ومسئولية افساح الوقت لفنها. وبالمقابل تجده في صبور وإقبال يسكب ألوانه في مساحات لونية تلقائية ومبهجة تخاله «تولوز لوتريك» كما في لوحة الزار. في لوحاته كما الكادر السينمائي التقنية العالية في وضع «الكتلة»، إذ في بعض الأحيان هي علي وشك الخروج من الكادر، لإعطائها ذلك الفضاء «SPHER» الرحب في الخلفية تخال شخصياته في قمة توازنها.. «طائرة». حين رسم لوحة التمزج «مير وشيحا» عن آثار قنبلة هيروشيما باليابان 2م* 150سم، هذا الكم الهائل من البشر مساق إلي الجحيم في حتمية المصير، في كتلة محددة صلبة متواترة علي شكل هلال مما لا يطغي علي الخلفية المشتعلة، وغالبا ماتفسح الكتلة قليلا ليسبح في فضاء الخلفية، كما في لوحة صورها لابنه وهو يركب حصانه الخشبي، وينظر إلي طائر ميت واسمها «أول التعرف علي الألم»، في لوحاته تلك التجربة الدائبة في الخامات والأسطح «الميكس ميديا»، جمع بين خامات متنافرة، وقد أدمج ألوان الشمع من الأكريليك والحبر الشيني مع الألوان الطباشيرية والمائية، فأعطت سطوحا تثير لاستطلاع حتي اللمس. جيل حائر.. بين الفن.. والردة الدينية أستاذ التصوير، يأخذ علي هذا الجيل عدم اهتمامه بالرسم، بالرغم أن الرسم بالنسبة للتصوير هو فقه اللغة، والسكشن بمثابة السوناتا في المزيكا، وحينما ندرس موسيقي الحجرة من سوناتا، إلي دويتو أوتريو، أو حتي خماسيات، نجد أن إنتاجها أكثر من الموسيقي السيمفونية فهو تعبير عن جمل مفيدة. ومن رأيه أن معظم الفنانين الآن يهتمون بالتكنيك برغم أن التكنيك «ركوبة» نركبها توصلني مشواري، والعجيب في هذا الجيل أنه بدلا من البحث عن الإبداع والفن واتساع أفقه وانطلاقه وتمرغه في التجربة والخطأ، والمغامرة وتوابعها إذ لا يمكن الامساك بجذوة الفن إلا بعد الاحتراق بتجاربه وبدلا من البحث في المذاهب الفنية، أصبحت الردة الدينية تتربص بالعقول الشابة، وتدفعهم إلي الزج بأنفسهم فيما لا يفقهون، وتأكدت بعد هذه الجلسة الطويلة مع الفنان ممدوح عمار، أنه حر لدرجة أنه يرفض أي شيء يفرض عليه بل عائلته بأكملها تشغلها قضية الجمال والجمال «صنو» أو توأم الحرية.