كثيرا ما كنت أتساءل عن سر سطوة «كاظم الساهر» علي الكثير من المعجبين والمعجبات، ليس فقط في مصر «وطنه الثاني»، أو في العراق «وطنه الأول»، والأكثر من ذلك أن هذه السطوة لم ترتبط بسماعي عنها فقط، بل تجسدت أمامي وفي طريقي كثيرا، فكم اختلفت مع الكثيرين من أصدقائي حول «كاظم»، ولأنني أؤمن بحرية كل إنسان في اختيار من يعبر عنه، لم تنته هذه الخلافات بالقطيعة، ولم يتسرب إلي ذاتي يوما الاختيار بين أمرين كلاهما عسير، أولهما أن أغير مشاعري نحو فن «كاظم الساهر». أما الثاني فهو أن أغير أحباء «كاظم»، ولأنني أعرف أنهم محكومون بالسطوة فلم أطلب ذلك، لأن «كاظم» نفسه محكوم بسطوة «نزار قباني» من جهة، و«كريم العراقي» من جهة أخري، وواضح لدينا أمر الثاني بحكم الهوية الواحدة والحنين إلي بلد- أعني العراق - كانت عظمته هي سر محنته الحقيقية، فلو لم يكن العراق عظيماً، ما كان للتتار الجديد - الأمريكي - أن يتفاني في سحقه، وهنا أود أن أشير أن هدم المباني لا يعني طمس التاريخ، لأن التاريخ صاحب السطوة الكبري، من هذه السطوة اختار «كاظم» التعبير عن نفسه وغناءه عبر قصائد «نزار قباني»، أو ما من شك في أن «قباني» من الشعراء الكبار والرموز المهمة في ثقافتنا العربية، إلا أن هناك خلطا ما يرتكبه الكثيرون، فليس معني أن «نزار قباني» شاعر كبير أنه بالضرورة يعبر عن أي أحد، وهذا ما يجعلني أصدق «عبدالحليم حافظ» حين يغني من كلمات «نزار» لأنه ابن تلك الفترة ورصيدها من الحزن والألم، ولا أقول إن الحزن قد اختفي، أو إن الألم قد زال، بل أصبح كل منهما - أعني الحزن والألم - يرتدي ثيابا مختلفة وصورا شتي دفعت الكثيرين إلي البحث عن طريق آخر في الكتابة والموسيقي والأداء، طريق يكاد يلتصق بهمومنا الحقيقية، ولاسيما أن مفاهيم كالحزن والخوف والألم والحب قد خرجت من صومعة العام والمطلق وأصبحت تحاكي تفاصيل بعينها وأحداثا وحكايات منها ما يجرح ومنها ما يكشف الصورة وأبعادها، لقد اختار «كاظم الساهر» أن يبدأ ألبومه الجديد «الرسم بالكلمات» - وهو عنوان ديوان شعر للشاعر «نزار قباني»- بأغنية «حبيبتي» وهي أيضا من كلمات «نزار قباني» ومن ألحان «كاظم الساهر»، ربما يرجع ذلك لسببين إما أن «كاظم» يحب أن يقدم أغنياته من ألحانه، وإما أنه لا يجد من يلحن قصائد «نزار» أفضل منه، والأغنية جاءت لتصور مونولوجا يحكي عن بطل يتحدث إلي من يحب من وراء ستار، وذلك لأننا لا نلمس حركة واحدة أو إشارة تثبت وجود هذه الحبيبة وقت سرد الحكاية، (حبيبتي إن يسألوك عني يوما/ لا تفكري كثيرا/ قولي لهن بكل كبرياء/ يحبني كثيرا) من الواضح هنا أن صاحب القضية ليس من هو في حكم السارد، بل تتجلي أزمة - المروي عنه - من خلال محاولة أطراف أخري غير ظاهرة تحاول أن تشكك في صحة هذا الحب من قبل الراوي بل ويتطور هذا الشك إلي «عتاب» مفترض بحسب النص، (صغيرتي إن عاتبوك يوما/ كيف قصصت شعرك الحرير/ قولي لهن أنا قصصت شعري/ لأن من أحبه يحبه قصيرا) - فنحن أمام صورة من الحب تفترض «الرفض» من قبل أبطال قد يكونون حقيقيين - أو ربما وهميين- ولا تطرح صيغة الرفض سوي في الحالات التي تصطدم بقوانين المجتمعات كحالة «فارق السن» مثلا، وعلي الرغم من هذه الفرضية «المربكة»، يضعنا «كاظم» أمام لحن أقرب إلي المقطوعات الموسيقية التي تسبق أو تنهي البرامج التليفزيونية، فاللحن ابن جملة واحدة لا تتطور بتطور النص، أو حتي تعكس صورته، وكما لو كان الملحن في واد والكلمات في واد آخر. من ناحية أخري يحمل «كاظم» اللازمة الموسيقية الفاصلة من بين المذهب والكوبليه طاقات غير مبررة، بمعني أنها لا تخدم الحالة ككل، فالنص يسير في خطوط بسيطة إلي درجة كبيرة، بينما يقدم «كاظم» لحنا كلاسيكيا لا يعبر عن روح المعني الذي يقصده «نزار»، وبالطبع ضاع الموزع «هشام نيازي» في المنتصف، ما بين نص «بسيط» يكشف الكثير، ولحن مغلق لا يقدم جملة واحدة مبتكرة أو طازجة، فقدم رؤية إيقاعية لا تهتم بمدي ارتباطها بالصورة الكلية للنص أو الأغلبية. المحكمة تلي أغنية «حبيبتي» أغنية «المحكمة» من كلمات الشاعر «كريم العراقي» وقطعا لحنها «كاظم الساهر»، والأغنية عبارة عن «دويتو» ما بين «كاظم» والمغربية «أسماء لمنور» وهي من الأصوات الجيدة في الساحة الغنائية، يحاول الشاعر «كريم العراقي» أن يلجأ إلي تيمة «الحكاية» فيبدأ بطرح نصه في صيغة مظلمة يتقدم بها إلي محكم - سيدي القاضي- بلغة تقف ما بين «الفصحي» و«المحكية» (كن منصفا يا سيدي القاضي/ ذنبي أنا رجل له ماضي/ تلك التي أمامك الآن/ كانت لدي أعز إنسان) ثم يستطرد في باقي القصة، ليكشف لنا عن صراع ما بين بطلي الحكاية عبر شكوي مزدوجة «القاضي» مفترض، فكل يشرح مأساته تجاه الآخر، صورة نقدية لعلاقة كانت موجودة فعلا كما رواها النص، وهذه الطريقة في الكتابة ليست جديدة، وعلي الرغم من اختلاف المعني وأداء اللغة تبقي أغنية (يا سلام علي حبي وحبك) للفاتنة «شادية» والموسيقار الراحل «فريد الأطرش» من كلمات «فتحي قورة» هي الأكثر تأثيرا، بالرغم من أن الأولي اتخذت من المحكمة «إطارا» لطرح القضية، علي عكس دويتو «شادية - فريد» كانت قد طرحت القضية ما بين اثنين علي وشك الارتباط دون رغبة أي شخص فيهما في الآخر، وذلك في قالب «كوميدي»، أي أن الدراما لحن «كاظم الساهر»، لم تكن هي مربط الفرس، بل جاءت عبئا علي النص، حيث يبدأ «كاظم» لحنه بجملة تجسد صراعا مبالغا في ذروته، علاوة علي استخدامه للآهات دون مبرر يستحقه، انتهت العلاقة - كان أجدي أن يقدم الصورة بشكلها الطبيعي دون هذا الصراخ الذي يتقدم اللحن، غير أن اللحن يعود بنا إلي الألحان الكلاسيكية في تقسيمه وقفزاته غير الموضوعية، إضافة إلي أنه لا يعبر عن روح النص، ولنتأمل معا علاقة جملة «دمرتني أنت» والتي تعبر عن كارثة يمر بها أحد أطراف العلاقة، سنجد أنه يطرحها في ايقاع رافض أقرب إلي ايقاعات الأفراح، ليكون اللحن مجرد لحن والنص مجرد نص ولا علاقة بينهما أصلا - اللحن يلتقي الكلمات كأي اثنين غريبين دون أي تواصل. الرسم بالكلمات جاءت قصيدة «الرسم بالكلمات» لتكون عنوان أحد دواوين الشاعر «نزار قباني»، وهي يقدمها «كاظم الساهر» عنوانا لآخر ألبوماته، وبالطبع لا خلاف علي شهرة «نزار» وأيضا هذه القصيدة، فالقصيدة شهادة علي حياة شخص ما يرفض أن يحسبها كرد علي طلب محبوبة ما، وهي حياة تنتصر للذات الراوية، (لا تطلبي مني حساب حياتي/ إن الحديث يطول يا مولاتي/ كل العصور أنا بها وكإنما/ عمري ملايين من السنوات/ تعبت من السفر الطويل حقائبي/ وتعبت من خيلي ومن غزواتي) فنحن أمام قصيدة الشعر العمودي الذي يتخذ عمود الشعر نسقا للتعبير عن حالته الوجدانية، إلا أن ما يحسب ل«نزار» أنه استطاع أن يفك جمود القصيدة العمودية في لجوئه إلي مفردات أكثر بساطة، هذا بخلاف حداثة المفردات ذاتها وحيويتها (إني كمصباح الطريق صديقتي/ أبكي ولا أحد يري دمعاتي) والقصيدة كما أشرت تتحدث عن ذات،إلا أنها ذات متضخمة ولعل أكبر دليل البيت الذي قام «كاظم» بتغيير بعض مفرداته (جربت ألف محبة ومحبة/ فوجدت أفضلها محبة ذاتي)، بينما يقول«نزار» في النص الأصلي (مارست ألف عبادة وعبادة/ فوجدت أفضلها عبادة ذاتي) إلي آخر النص، فالنص شاهد علي رحلة طويلة لشخص عاشها طولا وعرضا ولا يخجل من ذلك، ويأتي اللحن ل«كاظم الساهر» ليكشف عن دراما ناتجة عن تضخم في الجملة الموسيقية، علي الرغم من اللجوء إلي الجملة البطيئة والإعادات الزائدة، ثم يتغير اللحن تغيرا مفاجئا عند جملة (تعبت من السفر الطويل حقائبي/ وتعبت من خيلي ومن غزواتي)، ولعل عنصر المفاجأة يتركز في كون الجملة الشعرية تتحدث عن فارس قد هده التعب، إلا أن الجملة اللحنية كانت غير دالة وخارجة عن المعني المقصود لايقاعيتها المفرطة والظالمة، يلجأ «كاظم الساهر» في ألحانه إلي الألحان ذات المستويات المختلفة والمركبة، علاوة علي كونه يحول المسألة إلي صراع دون أي داع، ففي لحن «الرسم بالكلمات» تدخلت البداية في جو حالم وبسيط عبر جمل لحنية آسرة، إلا أن كل هذا ينتهي إلي شيء آخر عكس البداية، وهنا أسأل لماذا يحمل «كاظم الساهر» نفسه كل هذا الحمل، لماذا لا يكون بسيطا كالغناء كالفن، إن البساطة ليست عيبا، لم كل هذا الزخم والحشد الكبير؟ نحن نغني ولسنا في معركة، أعتقد أن المسألة تكمن في وعي «كاظم» بنصوصه واختياراته، ماذا لو غني «كاظم» أغنيات عامية لشعراء هذا الجيل؟ لقد غني «محمد منير» من أشعار (عبدالرحمن منصور- سيد حجاب - فؤاد حداد - مجدي نجيب - عبدالرحمن الأبنودي)، وكذلك غني من كلمات (بهاء الدين محمد - كوثر مصطفي - أيمن بهجت قمر) وشعراء جدد آخرين، فلماذا يحبس «كاظم» نفسه في شرنقة «نزار قباني» أليس هناك بديل آخر، يستطيع أن يعبر عن نفسه من خلاله؟ أداء «كاظم الساهر» لا شك أن «كاظم الساهر» لديه أدوات خاصة في الغناء، وذلك من حيث الصوت وطبقاته، فهو صوت قوي وذو مساحات مبهرة إلا أنه يحتاج إلي التنويع في أدائه، والاهتمام بإمكاناته الصوتية والتي أدهشتني حين غني أغنية «بفكر في اللي ناسيني» للراحل العظيم «محمد عبدالوهاب»، أود أن أشير إلي أهمية صوت «أسماء لمنور» والتي شاركت في أغنية «المحكمة»، فهي من الأصوات التي تتمتع بتأثير خاص، إلا أن الساحة لم تسمح لها بطرح تجربتها فهي صوت لديه الكثير والكثير، ولعلها استطاعت أن تفك جمود اللحظة وهي تغني، وفي النهاية أقول ل«كاظم الساهر» أنت صوت كبير ومهم يحتاج إلي تجربة كبيرة بحجم هذه الموهبة.