عندما كتب المؤلف الفرنسي «بومارشيه» مسرحيته «حلاق اشبيليه» أثار الكثير من الجدل نظرا لتعريته طبقة النبلاء والحكام .. في زمن كان هذا الأمر يعتبر من التابوهات التي لا يجب الاقتراب منها أو مسها. ولكن بعد نجاح هذه المسرحية الشعبية الكبيرة .. تجرأ بومارشيه وكتب الجزء الثاني منها الذي اطلق عليه اسم «زواج الفيجارو» وترك لقلمه المجال لكي يسخر من النبلاء والأسر الحاكمة.. وتصوير الفساد الأخلاقي والاجتماعي الذي سري في العروق .. منبئاً بكلام هزلي كبير. طبعا اختار بومارشيه الكوميديا.. سبيلاً للنقد والتجريح ولأن الكوميديا كانت دوما الستارة الشفافة الرقيقة والمزركشة التي تساعدنا علي ابتلاع «الحبة المسمومة» التي يحتويها النص. دراما وأساطير لذلك كانت جرأة المؤلف الإيطالي روسيني كبيرة، عندما قرر نقل أحداث «حلاق اشبيليه» إلي الغناء الأوبرالي .. الذي كان في جل أعماله يعتمد علي الدراما والأساطير وكما حدث لمسرحية «بومارشيه» حدث لأوبرا «روسيني» من شهرة وذيوع صيته. لذلك عندما قرر «موزارت» في دربه الصعب الذي سلكه لإزاحة الأوبرا الإيطالية عن عرشها واستبدالها بالأوبرا الألمانية، أن ينقل الجزء الثاني من المسرحية .. وهو الأكثر شدة والأشد قسوة في نقد المجتمع الارستقراطي ،لجأ إلي استعمال «البل كانتو» أي «الغناء الجميل» الذي سادت عليه الأوبرا الإيطالية .. ليضمنها ألحانه الرائعة التي زينت فصول هذه الأوبرا الأربعة. أحداث زواج الحلاق أحداث تميل إلي الفارس والفودفيل أكثر مما تميل إلي الكوميديا. علاقة غير شرعية إنها تمثل حلم «فيجاور» الذي يعمل خادما لدي الكونت «المانيفا» بالزواج من محبوبته سوزانا وصيفة لزوجة الكونت والتي يصر الكونت علي إقامة علاقة معها قبل أن تزف إلي زوجها. والكونتيسة تعرف تماما نزوات زوجها وخيانته وتضطر للسكوت عنها كاتمة آلامها في صدرها يعزيها في ذلك عشق المراهق الصغير «شيروبين» لها. وشيروبين هذا شاب يعشق كل امرأة يصادفها.. ويتوله في حبها فهو تارة يعلن حبه لسيدة القصر وأخري لسوزانا خطيبة الفيجارو وثالثة لابنة البستاني. ويكلفه طيشه هذا غضب الكونت وقرار ارساله إلي الجيش لكي يروضه. وهناك أيضا هذه المرأة «مارشيلنا» التي أدانت فيجارو مبلغا كبيرا من المال عجز عن سداده وهي تطالبه الآن بالزوج منها ثمنا لهذا الدين وإلا سجنته. اختفاء وراء الستار هكذا تتواجه الأمور. ومفاجآت غير متوقعة واختفاء وراء الستائر والأرائل وأسرار تذاع وتنتشر. كونت يحكم مملكته كما يشاء.. ويتصرف بأفرادها كما يحلو له. وعواطف صادقة تتطاير في الفضاء.. ويعجز أصحابها عن التعبير عنها بصدق. واستحالة أن يفوز عاشق فقير بقلب محبوبته مادام هذا القهر يحيا به من كل جانب. الأوبرا من أربعة فصول.. وفي كل فصل أحداث ضاحكة باكية .. وشخصيات من لحم ودم تتحرك أمامنا بقوة وتأثير، يزيدها عطرا هذه الموسيقي الإلهية التي كان يتمتع بها موزارت والتي عرف كيف يضمنها أحداث الفصول الأربعة .. بتوزيع عادل متقن أعطي فيه لكل مغني ومغنية الحق في أداء أغنية أو أكثر تظهر مواهبه وقدراته الصوتية .. دون أن يخل ذلك مرة واحدة بالإيقاع الدرامي وتسلسل الأحداث. إخراج هذه الأوبرا مهمة صعبة حقا نظرا لانتشار الأدوار الكبيرة وهالات الضوء التي تحيط بها، واختلاف المناظر في الفصول الأربعة.. واللجوء إلي الكورال والراقصين في بعض المشاهد. الإضاءة والأزياء تلعب دورا رئيسيا ومهما..«خصوصا» الفصل الأخير الذي يدور في المدينة أثناء هبوط الليل وحيث تختلط الهويات .. وقسوة الشخصيات من بعضها وحيث يكتشف الكونت أن من يغازلها هي ليست سوزانا التي يطمع بها وإنما هي زوجته نفسها التي ارتدت ثيابها. براءة وسذاجة كما يلجأ موزارت إلي حيلة اعطاء دور شيروبين المراهق إلي صوت نسائي تحتاجه الشخصية للتدليل علي براءتها وسذاجتها ونقاء روحها. إذن العمل بالغ التعقيد موسيقيا ودراميا وإخراجيا فما الذي فعلته فرقة الأوبرا المصرية عند تقديمها له كافتتاح لموسم الشتاء الذي تعدنا فيه الأوبرا بالكثير من المفاجآت الحلوة والضربات المسرحية والموسيقية الموفقة. بهلوانية الحركات لا شك أن الجهد الذي بذله عبدالله سعد في إخراج الأوبرا جاء كبيرا ومقنعا واستطاع أن يضبط «بهلوانية» الحركات التي امتلأت بها الأحداث يساعده علي ذلك ديكور شديد البساطة، ولكنه في نفس الوقت شديد الأناقة «وقد تجلي ذلك خصوصا في ديكور الحديقة الذي غلب عليه اللون الأخضر القاتم وديكور مخدع قدم الكونتيسة الذي غلب عليه اللون الأبيض الصافي» . الأزياء التي لجأت إلي ألوان الباستل الباهتة الشاعرية .. ولم تخرج عنها إلا في قياس الراقصات الأحمر الأرجواني .. كانت في موضعها قادرة علي خلق الإيحاء والتعريف بالشخصية من خلال اكسسواراتها. ولكن ثقل العمل كله جاء مرتكزا علي صوتين أساسيين في الأوبرا رضا الوكيل في دور «الكونت» ومني رفلة في دور «سوزانا». رضا الوكيل هذه المرة في كامل لياقته الجسدية والصوتية يملأ المسرح بوجوده وحضوره الطاغي .. وصوته الرنان، ويضيف إلي كل مشهد يظهر فيه بعدا دراميا وجماليا يأخذ بقلب المتفرج وعقله معا. إنه يحمل الشخصية .. أكثر من تحمله الشخصية نفسها، هذا الهدوء الواثق من نفسه الذي يتخلله غضب مزاجي عنيف هذه البرودة في التعامل مع الآخرين هذا الاستعلاء الفضولي علي طبعه يعتبران من حقه الإلهي أن تخدق وتطيعه ولو كان ذلك علي حساب كرامتها الإنسانية لا فرق في ذلك بين زوجته المحبة وبين خادمته الحسناء أو المراهق الأحمق. ولا يقف أمام طغيانه إلي ذكاء «الفيجارو» الفطري ابن الشعب الذي يعرف كيف يخرج من كل المحن وكيف يصون كرامته وشرفه .. حتي لو جاء ذلك عن طريقة الاحتيال والكذب.. ولكن ماذا يمكن أن يفعل إنسان مجرد من السلاح أمام عملاق مدجج بالنار. «مني رفلة» أعطت لدورها أنوثة ورقة وعذوبة مدهشين ساعدها علي ذلك صوت رنان مثوثب وطبقات عالية عرفت دائما كيف تروضها لصالحها. والدويتو الذي انشدته مع الكونت سيظل عالقا في الذهن طويلا لكل من يحب هذه الأوبرا أو من شاهدها. إلهامي أمين «البارثبون الشاب» الذي يجرب البطولة الأوبرالية لأول مرة بعد تحقيقه كثيرا من النجاحات في حفلات الكونسير، يحاول أن يمسك بدفتي الشخصية ولكن تجربته الفنية مازالت غضة وكثير من المقاطع الموسيقية المهمة افلتت منه خصوصا عندما كان يواجه العملاق «رضا الوكيل» حيث بدا الفرق شاسعا بين التجربة والخبرة ومن الحماسة والاندفاع. بالمقابل جاء أداء حنان الجندي لدور «مارتشيلينا» مقنعاً ومؤثرا وعرفت كيف تمسك بخيوط الدراما في الفصل الأول وخطوط الكوميديا في الفصل الثاني «خصوصا عندما تكتشف أن فيجارو الذي تود الزواج منه هو ابنها الضائع منذ أكثر من عشرين عاما.. انقلاب شخصيتها مرة واحدة من النقيض إلي النقيض». أما عبدالوهاب السيد .. فيبرهن رغم قصر دوره أنه وصل إلي مرحلة النضج الفني وأن الأوبرا يمكنها أن تعتمد عليه بعد ذلك في كثير من الأدوار الصعبة التي تحتاج إلي قوة الشخصية إلي جانب مرونة الصوت. «زواج الحلاق» هو العمل الذي تفتتح به فرقة الأوبرا المصرية موسمها.. افتتاح يملأ صدورنا بالأمل فيما سنراه بعد ذلك خلال الموسم. ولكن لي اعتراض كبير لماذا الترجمة العربية.. وإخراج اللحن من كلماته الأصلية إلي كلمات أخري لم تخطر ببال موزارت. الدوبلاج أمر غير مستحب في السينما.. رغم شيوعه .. ولكنه في الأوبرا أمر مرفوض تماما علي الأقل بالنسبة لي.