لابد شاهد الأغلبية مرارا وتكرارا خلال شهر رمضان تلك الطفلة الظريفة التي تدفع بصديقها ليسقط في مياه الشلالات من أجل كيس من البطاطس، وشاهد أيضاً اخصائيا في جلسة للعلاج الجماعي وهو ينصح شابا أن يوجه ضربة لصاحبه إن وجد نفسه متورطا في خناقة ولابد أن كثيراً من المصريين قد أسفوا لاهدار القيمة المعنوية لأحد الألحان التي ارتبطت بوجدانهم حين رددته الجماهير في فقرة إعلانية عن قالب من الجبنة، ذلك قليل من كثير مما طالعنا علي الشاشات خلال الشهر الكريم.. لقد رأي فيها البعض مدعاة للضحك ودافعاً للسخرية ورأي فيها الأغلب الأعم من المشاهدين هجمة شرسة فجرت لديهم حالة من الاستياء وصلت لحد الاستفزاز، إذ عصفت تلك الاختراقات الإعلانية بوحدة الدراما - من دون أدني اعتراض من رجالها بل وصل الأمر لحد المفاخرة بكثافة تلك الاختراقات التي قضمت أيضاً الرابطة الوجدانية بين المشاهد والمادة المعروضة علي الشاشة،لقد غفلت وكالات الإعلان كجهة منتجة وأيضاً القنوات كجهة عرض عن أن المشاهد يمثل ضلعاً أساسياً في العمل الإعلاني، والذي يقتحم حياته ويقتطع من وقته ويغذي فاتورة الكهرباء خاصة حين يعرض له سلعة هو في غير حاجة إليها أو خدمة فاقدة المصداقية لها من الآثار الجانبية ما يضر بالمشاهد وأولاده، وسؤال يطرح نفسه: كم وكالة إعلانية تبعت حملاتها بدراسة دقيقة لمردودها علي المشاهد صحياً واجتماعياً. فن الإعلان ومن البديهي أن الإعلان عن سلعة أو خدمة لابد وأن تتوفر به عدة أركان أساسية لكي يحقق الهدف منه، أولها المصداقية إضافة لدقة المعلومة واكتمال عناصرها فضلاً عن طرحها بتركيز كما الطلقة ومعالجتها بأسلوب جذاب لا يخلو من طرافة ومن الأهمية بمكان أن يخلو الإعلان من كل ما يضر بالمشاهد خاصة الأطفال أما عن سياسة العرض فينبغي أن تنتهج الحملة الإعلانية سياسة محسوبة في العرض علي المشاهد ضاربة عرض الحائط بالقول المأثور «الزن عالودان أمر من السحر»، لأن سياسة الضرب بالمطرقة علي دماغ المشاهد لابد وأن تصرفه عن المتابعة. نماذج جيدة لقد طالعتنا خلال الشهر الكيرم عدة إعلانات حالفها النجاح وحققت قبولا لدي المشاهد لطرافتها وخفة ظل الفنانين الذين عرضوها منها فقرة لتامر وشوقية عن التليفزيون ثلاثي الأبعاد وأيضاً فتحي وفوزية عن السيراميك وفي مقدمتها فقرة الحساب بالثانية والتي قدمها الفنان ماجد الكدواني وقد لاقت الحملة الإعلانية لإحدي شركات خدمات المحمول قبولا حين اعتمدت علي عرائس مصرية مائة في المائة لتقديم فواصل غنائية من التراث الشعبي وذلك كله في مقابل فقرات غفلت عن البنود الأساسية لميثاق شرف الإعلان من ناحية المعالجة والطرح وأيضاً منهج العرض، لقد وفقت إحدي وكالات الإعلان لاختيار طفلة ظريفة لبطولة حملة إعلانية برفقة صديقها الطيب للترويج لشرائح الباطس غير أن معالجة الفقرات لم تكن موفقة تربوياً، ففي كل فقرة كانت الطفلة لا تتواني عن الحاق الأذي بصديقها ولا تبالي برفع الأذي عنه كل ذلك من أجل كيس البطاطس ففي إحدي الفقرات تدفعه من القارب ليسقط في مياه الشلال وفي فقرة تالية لا تأبه لأوجاعه وقد سقط عليه لوح خشبي كبير من دور علوي فتسارع لانتزاع كيس البطاطس من يده وفي فقرة أخري تتجاهل ما يتعرض له صديقها من آلام ومخاطر بينما هو معلق بدراجة تندفع مسرعة علي الطريق كل ذلك لتنتزع من يده كيس البطاطس. لقد غفل خبراء الحملة عن أن فعل العنف محذور في الأعمال الفنية الموجهة للأطفال وأن للأثر التراكمي للعنف تكريس له في سلوكياتهم وردود أفعالهم. مفهوم الرجولة! وفي حملة إعلانية للترويج لمشروب الرجولة يتساءل المرء عن خصائص الرجولة التي يدعمها المشروب؟ هل يدعم الإقدام والمثابرة أو قوة التحمل والتغلب علي الصعاب وهو الأمر الذي غاب تماماً عن الفقرة بينما يضيف خبراء الحملة خاصية حديثة للرجولة مفادها أن يوجه المرء ضربة لصاحبه ان وجد نفسه متورطاً في خناقة فهل تلك هي الخاصية التي تدعم الرجولة في مجتمع نامي؟! وفي حملة إعلانية أخري غفل الخبراء عن أن عنصر المفارقة والمبالغة من العناصر المفجرة للكوميديا، فهل كان التأثير الكوميدي أحد متطلبات فقرتهم الإعلانية حين وظف الخبراء لحنا حماسيا مشهوراً ومحفوراً في وجدان الشعب ذلك للإشادة بقالب من الجبن وكأن المنتج العجيب صاروخ موجه أو طائرة بلا طيار؟ وفي حملة إعلانية عن بعض الأنشطة البنكية تفتقد الفقرة للمصداقية حين تسقط عن الفقرة قيمة الفائدة البنكية علي البطاقة والقرض وفي إعلان عن منتجع سياحي تتحدث إحدي سيدات المجتمع بدلال عن ميزاته بأن السينما بجوار المول وكأنه قد بات كل من الترفيه والتسوق من الاحتياجات الأساسية والحيوية للبشر غافلين عن جموع الصابرين في طابور العيش والصامدين في وسائل المواصلات، ويلفت النظر في حملة مكثفة لجمع التبرعات لصالح مستشفي شهير بمناسبة الشهر الكريم احتواء الفقرات علي لقطات قريبة للأطفال المرضي غافلين عن أن حماية خصوصية الأطفال حق من حقوقهم تكفله الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. تلك نظرة عامة علي المعالجة الدرامية للفقرات الإعلانية إلا أن ما يفوق الاحتمال هو السياسة التي انتهجتها الوكالات للدق بمطرقة علي أدمغة المشاهدين متناسين القول المأثور إن الشيء ان زاد علي حده ينقلب إلي ضده وأن كثرة السلام تقل المعرفة، فهل قدر الخبراء كمية الضجر التي أثقلت كاهل المشاهدين من جراء ملاحقتهم بعرض ذات الفقرات بفارق زمني لا يتعدي بضع دقائق أو ثوان علي مدار الليل والنهار حتي شاع بين المواطنين أن أحدهم سأل الآخر لماذا العيد فرحة فأجابه لأنه اعتقنا من الإعلانات ولو قليلاً، حقيقة الأمر أن سوق الإعلانات بات بلا ضابط فني أو اجتماعي مما يتطلب إصدار ميثاق شرف للإعلان.