مدخل تأسيسي : المسرح - منذ نشأته الأولي - احتفال شعبي وليس حفلة خاصة . وفي إطار ثقافتنا الشعبية العربية يكون مناخ "المولد" أقرب الأشكال للمسرح . احتفال شعبي حول فكرة إنسانية، وليس حفلة خاصة للأهل والأقارب حول حدث فردي مثل "السبوع" أو "الطهور". وكلما اتسعت دائرة المشاركين، كلما تصاعد التقارب والاندماج والتحرر، هكذا تصل رسالة المسرح وتنتشر، فقوة المسرح الحقيقية تكمن في تلك الروح الجمعية التي تربط حبنا للاحتفال والتحرر وفرحتنا بالفرجة، وكما يؤكد الفيلسوف جادامرGadamer " فوراء هذه الحرية الجمالية يكمن معني عميق من المشاركة الجمعية التي تذيب كل مسافة، حيث يسودنا فعل من أفعال التوحّد . فالمسرح يستدعي شيئا ما، يمارس فعله فينا " مرة أخري العصفوري يعود مرة أخري ! خبر فرح له الجميع واغتبط، وغرد له المسرح المصري وزغرد، يعود بعد التباعد والترفع خمس سنوات كاملة !! يعود بمسرحه الشامل Theatre Total الممتلئ بهجة ومرحا وفرحا وألوانا وأفكارا وسخرية وتلميحا وتصريحا،المسرح يضج بحيوية مجموعة من الممثلين المجيدين والراقصين والراقصات المنضبطين، علي إيقاعات المصمم الرائد حسن عفيفي وموسيقي صلاح مصطفي وفرقته الحية، بملابسهم زاهية الألوان المختارة بعناية وخبرة وحساسية، كل ذلك يدور في وادي الجن، حيث كل شيء مباح، التعليق الساخر والنقد المباشر والسخرية من الأحداث المرحلية، وسط جو كرنفالي مليء بالبهجة والرقص والتغني بأشعار شوقي وحافظ وبيرم و ألحان سيد درويش وعبدالوهاب، بأصوات غنائية عذبة (نهاد فتحي - وليد حيدر) هذه التوليفة الغنية، في إطار الكوميديا دي لارتيComedia de larte يحوطها ويضبط إيقاعها الممثلان الكبيران محمود الحديني وأشرف عبد الغفور بأدائهما المبهر الذي يتناسب تماما مع جدية أفكار وأشعار وشخصية كل من شوقي وحافظ، باختصار كان درسا في الأداء المسرحي . كما كان استخدام الفيديو بشكل مقتصد كاف تماما في بعض المشاهد ذات الدلالة المهمة كحفر قناة السويس، وحفلات الخديو، و فقراء أحياء القاهرة، والمظاهرات ضد الإنجليز، وملعب كرة القدم، كامتداد بصري لتعميق الحدث والمعني، نفس منهج الديكور المقتصد جدا، تاركا الفضاء المسرحي للممثل يتحرك فيه كيف يشاء . بعد ربع قرن عرضت هذه المسرحية التي كتبها يسري الجندي منذ أكثر من ربع قرن في أوائل الثمانينات تحت اسم "حدث في وادي الجن"، من إخراج المخرج نفسه، وعندما طرحت فكرة إعادة عرضها مرة أخري في إطار مشروع " قمم مصرية" المسرحي المقدم من أشرف زكي مسئول البيت الفني للمسرح،كمحاولة في الاتجاه الصحيح لإنقاذ حالة المسرح المتدهورة في السنوات الأخيرة، وذلك بالتعاون مع وزارة الشباب ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، وقطاع الإنتاج الثقافي بوزارة الثقافة واتحاد الإذاعة والتليفزيون، كان من الطبيعي علي الكاتب الكبير يسري الجندي كأحد فرسان الجيل الثاني من كتاب المسرح المصري الذي ساهم بإخلاص بكتاباته لعقود عدة في تأسيس المسرح العربي، أن يعيد النظر في النص ويجري عليه بعض التعديلات سويا مع المخرج في إطار تفسيره / تفسيرهما الجديد، حتي يكون العرض قادرا علي إثارة حوار مع واقع المجتمع الحالي بعد كل هذه الأحداث والتغييرات الجوهرية التي طرأت عليه، مضيئا ومفسرا ومنبها ومحذرا، ومن هنا كان تعديل العنوان إلي صيغة النداء / النداء الصرخة "يا ساكني مصر"! التي تكشف بوضوح عن اختيار تقديم هذا العرض الآن، كما تؤكد دور المسرح ووظيفته كدعوة تحريضية، مكررا :" فاستفق يا شرق واحذر أن تناما !! مساحة للإبداع إن اختيار الكاتب المتمرس وادي الجن مكانا فانتازيا تدور فيه الأحداث، أعطي للكاتب كما للمخرج مساحة واسعة للتخييل والإبداع والحرية تسمح بما يمكن أن يحدث ويدور ويقال في وادي الجن غير المنطقي بطبيعته، إطارا استخدمه العصفوري لأقصي حد ممكن، فوراءه تاريخ وخبرة طويلة، في كسر القواعد التقليدية للإخراج، والتدخل بشكل واع و قصدي في النص وإعادة تشكيله وترتيبه، تبعا لتفسيره وموقفه. والمسرحية تدور في إطار مناظرة يختلف وينقسم فيها أهل وادي الجن حول أحقية لقب أمير الشعراء : الشاعر أحمد شوقي أم الشاعر حافظ إبراهيم ؟ وتتصاعد المناظرة من حوار إلي خلاف ومشادة تنتهي بهذا العرض الموسيقي الراقص المبهج المليء بكل عناصر وفنون الفرجة المسرحية . شوقي ابن الطبقة الوسطي، الذي قضي مراحله الأولي وشبابه في قصر الخديو، مشغولا طوال الجزء الأول من العرض بالبحث عن ليلاه، محبوبته الجميلة،غارقا في جو رومانسي، بعيدا عما يدور حوله من أحداث مهمة في الوطن، إلي أن يعزل الإنجليز الخديو عباس حلمي وينفي شوقي خارج الوطن . يتطور موقفه ويتغير بعد عودته من منفاه في مناخ الحركة الوطنية المشتعلة ضد المحتل، ويلتقي حافظ الضابط المطرود من الجيش لتمرده،المنحدر من طبقة فقيرة المرتبط بالشعب وبالناس وبالوطن، ويصير الوطن وأمجاده وناسه ومصيره هو شغلهما الشاغل، كان لقاء حول الوطن كمعني، الوطن وارتباطه بمقاومة المحتل الأجنبي وفضح الخديو المهادن والمشاركة في الثورة، كان ارتباطا أبديا بين أمير الشعراء و بين شاعر النيل . مواقف خلافية إن المؤلف لا يعنيه هنا تقديم دراما وثائقية بالشكل التقليدي وإن كانت في بنائها ترتكز علي موقف خلافي بين شخصيتين واقعيتين، في مرحلة مهمة من تاريخ الوطن، مستخدما وموظفا المادة الشعرية التي اختارها للشاعرين الكبيرين، وأعاد ترتيبها وتركيبها ليست كقصائد منفصلة بل داخل النسيج الدرامي للعمل - رغم سرده علي لسان الراوي أهم مناطق سيرة حياة كل منهما -- بل يعنيه في المقام الأول عرض الإشكالية المطروحة علي الشاعرين آنذاك، التي هي في حقيقة الأمر نفس الإشكالية المطروحة الآن علي كل من الكاتب والمخرج،بل وعلي المشاهد في نفس الوقت، انه الصراع التاريخي والحضاري والهمّ المشترك الذي يمتد عبر الأجيال مغيرا جلده وأساليبه - إنه (مصر الوطن المحاصر.. مصر الشعب المنهوب) بتنويعاته المختلفة علي مر العصور والأزمنة . مشهد المواجهة استدراك لا بد منه: لا يجوز انتزاع مشهد من جسد العرض والحديث عنه منفصلا، فجمال العرض المسرحي كجمال المرأة، ينظر إليه من منظور كلي وليس تجزيئيًا تحكمه نظرية الجشتالت Gestalt، ومع ذلك أستثني مشهدين اثنين من القاعدة لأسباب سوف تتضح فورا : 1- مشهد المواجهة والصراع بين شخصية اللورد كرومر وبين الخديو عباس، بينهما مقعد يتنافس عليه كل منهما، بينما المذيع / الراوي يقوم بوصف اللعبة بنفس أداء وإيقاع مذيع مباراة كرة القدم، حيث تمتد خلفهم في خلفية المسرح صورة ضخمة لملعب كرة قدم، وهكذا تحوّل الصراع التاريخي للاستعمار إلي لعبة حول الكراسي. هذا الاختصار/ الاختزال/ التلخيص/ التبسيط، أدي إلي وصول الرسالة مباشرة للمشاهد في إطار من الضحك والسخرية Grotesk هذا التعبير الرامز المبسط الذي يستحيل أن يفلت من معناه المشاهد. 2_ مشهد الموت الجميل : الموت علي المسرح حدث مأساوي في جوهره، يثير انفعال المشاهد ويسوقه للتوتر والانفعال وربما للبكاء . كيف تكون لحظة الموت علي المسرح لحظة شعرية ؟ ! في المشهد الأخير، يجلس حافظ علي مقعده عن يسار المسرح، ويغمض عينيه ويتوقف تنفسه في هدوء ونعومة، ويروح في سبات عميق، وينام في سلام، فيقترب منه شوقي بأسي ويرثيه شعرا ويعود يجلس علي مقعده ويختفي هو الآخر . لحظة صعود الروح لبارئها، لحظة سمو وارتقاء ترانزندنتالي، لحظة صوفية رقيقة تغلف جو المشهد، أكاد أقول كانت اللحظة هنا لحظة جميلة في غاية الرهافة والرقة، طغي عليها الفن فخفف كثيرا وخففنا معه. علمت أن عرض " يا ساكني مصر! " سوف يجوب طول وعرض مصر المحروسة، حتي يتعرف الناس أكثر علي ما هو مسرح، وتتغير الصورة المغلوطة التي تكونت عند المشاهد علي مر السنوات الفائتة، ويعود المسرح إلي أصوله كاحتفال شعبي جماهيري وسط الناس، بهم ولهم .