اعتمد الكاتب في روايته علي ما يسمي بالحضور الفكري في الصورة وهي خاصية جوهرية للشعراء الرمزيين في القرن التاسع عشر، حين حولوا الأفكار إلي إحساسات، فأثبتوا تفردهم، كما أثبت عمرو عافية تفرده في هذه الرواية، فحقق بذلك قول الشاعر الإنجليزي، تي إس إليوت: "إن أعظم شيء له أهمية لدي الشاعر في أي عصر، هو أن يعبر بالفروق الفردية عن الحالة العقلية العامة"، ومن هنا، اتهم بعض النقاد هذه الرواية بالتحليق والبعد عن الواقع، واتهموا كاتبها بالتعالي علي القراء، والتحدث إليهم من فوق برج عاجي، وهي صفة اتهم بها النقاد من قبل، توفيق الحكيم حين كتب مسرحياته الذهنية: "شهرزاد" و"أهل الكهف" و"أوديب ملكاً" و"براكسا" و"يا طالع الشجرة" وغيرها، ولكن سرعان ما اكتشف بعض النقاد، أصحاب النظرة الثاقبة، أنها حالة لا تؤتي إلا لكاتب متميز، أوتي درجة عميقة من الفهم والثقافة، أراد إيصالها للقراء، من خلال أعمال أدبية مميزة، ولكنه غالباً ما يفشل، فيراهن علي الزمن، منتظراً لليوم الذي يجد فيه من يقدر أعماله، وكما حدث مع الحكيم، حدث مع الشاعر علي محمود طه، فقد اتهمه بعض النقاد، ومنهم شكري عياد، بخلو شعره من الفكر العميق، وبأنه يعتمد علي ما يسمي "بالشرر اللفظي" الذي يجعل أشعاره، بل ألفاظه، تتوهج، وقد أرجأ شكري عياد تلك النزعة في شعره، إلي اعتماده علي الشعراء الرمزيين، الذين يعنون بالموسيقي والكلمات، ولكن بعض النقاد رأوا أن العناية باللفظ الموسيقي المحلق، يحقق الجمال للعمل الأدبي، وقد دافع مندور عن شعر علي محمود طه، لأنه فهم ما به من عمق فكري، وذلك حين أشار إلي نظريتين أساسيتين، يقاس بهما الشعر؛ الأولي نظرية التحليق للشاعر الإنجليزي: السير جورج هاملتون، والثانية نظرية الشعر نقد للحياة، التي يقول بها الناقد الإنجليزي: ماثيو آرنولد: "إذا أردنا أن نضع شعر علي محمود طه في مكانه الصحيح، نقيسه بنظرية التحليق، التي تؤكد صدق الخيال الشعري، لا صدق الشعر نفسه، لأن الشعر في هذه الحالة، يقاس بما فيه وحده من شعرية، ولا يقاس بمدي مطابقته للتجربة الأصلية للشاعر، ومعني ذلك، أن الشعر يخلق عالمه السحري الخاص، ويري مندور أن القصيدة تشبه اللوحة التجريدية التي تعد في ذاتها عالماً صغيراً، ولا تقاس إلا بمنطقها الخاص النابع من ذاتها، هذه هي خصائص شعر التحليق، ولذا، يعد من السخف مناقشته بالمنطق والعقل، وإن فعلنا، نكون، كما يقول مندور: "أشبه بمن يشرح فراشة بسكينة بصل"، وبالمثل، إذا أردنا وضع هذه الرواية بمكانها اللائق، ننظر إليها بمنظور نقد الأسطورة، وهو نوع من النقد، ظهر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، في أمريكا، بسبب ظهور فكرة التشكيك في التكنولوجيا، والحنين للمغزي الروحي، والاهتمام بالوعي الإنساني الذي نادي به نيتشه، حين أدان الحياة الحديثة، ورأي أن أسس المجتمع تكمن في الأسطورة، فقال: "إن الإنسان اليوم عارياً من الأسطورة، يقف جائعاً بين كل حقب الماضي التي مرت به، ويحفر كالمجنون بحثاً عن الجذور"، لقد وظف الكاتب في هذه الرواية اللغة والصور وتطور الشخصيات بمهارة فائقة، من أجل الدمج بين الفكرة والصورة، وقد نجح في ذلك، لأنه يدرك، مثل آرنولد، أن الفصل بين هذه العناصر، يزري بالفن، كما اعتمد علي اللفظة العاطفية في تفجير دلالات أدبية، مما منح النص ثراء، هذا بالإضافة إلي اعتماده علي الرمز الشعري في بعض عبارات السرد، سواء كان ذلك من خلال الحوار، أو من خلال المونولوج الداخلي. أحداث الرواية تدور أحداث الرواية في مدينة الإسكندرية، تحكي قصة شاب في العقد الرابع من عمره، علي مستوي عالٍ من العلم والثقافة، فهو أستاذ جامعي، ومحقق للتراث في مكتبة الإسكندرية، وملم بكل ألوان الفنون والآداب، تشكل كل من غرام زوجته، ومريم، الفتاة التي تعرف بها في إحدي دور السينما، محور حياته العاطفية، تنتمي زوجته لأصل أوروبي من إحدي الأبوين، وهي طبيبة، تجوب العالم لحضور مؤتمرات، أو للدراسة، وهي شخصية ثرية، ولذا، أعطاها السارد مساحة لابأس بها، سواء من خلال تداعي الذكريات، أو التحدث مع زوجها عبر الهاتف، أما شخصية مريم، فهي فتاة في العقد الثاني من عمرها، متواضعة في كل شيء؛ الجمال والتعليم والمستوي الاجتماعي والمادي والثقافي، ولكنها تعد البطلة الحقيقية للرواية، تعلق بها البطل، رغم الفارق الكبير بينهما، علي كل المستويات، ولكنه لم يعرف سبباً لذلك، ومن خلال السرد والحوار، اللذين برع فيهما الكاتب، واستخدام الجمل الموجزة الدالة، نستطيع كشف ما بين السطور، فعندما يشتري كتاباً لزوجته كانت تريده، ثم تهاتفه من الخارج، قال: "كنت أنوي أن أخبرها عن الكتاب الذي اشتريته لها، لكني تكاسلت"، وهنا، يدرك القاريء أن ثمة توتراً في العلاقة بينهما، ثم تكشف تطور الأحداث عن ذلك، فيما بعد، أما مريم، فرغم حرصه علي لقائها، لم يستطع أن يكون سعيداً معها. حرص البطل علي إخفاء اسمه في الرواية، ولكننا نستطيع معرفة السبب من خلال تطور الأحداث، تتداخل مع الخط الدرامي الأساسي قصتان، ظهرتا علي استحياء خلال الأحداث، ثم بدآ بالظهور تدريجياً، حتي اتسعت رقعة وجودهما، فطغيا علي أحداث الرواية، بل أخفياها تماماً مع نهاية الأحداث، وهنا، ينسي القاريء غرام ومريم وبعض أحياء الإسكندرية، ويجد نفسه محاطاً بغلالة ضبابية من الأساطير والسحر وحكايات ألف ليلة وليلة، فالقصة الأولي هي المخطوطة التي يقوم بتحقيقها، وتحكي أسطورة عربيد عشق آباد، أي بلد العشق، وهي في تركمنستان، ونشأته بدون أبوين في إحدي الجزر الاستوائية، وبالتالي، يدخلنا في القصة الثانية، وهي القصة الأساسية التي استمدت منها أسطورة العربيد أحداثها، وتسمي "حي بن يقظان"، لابن طفيل، المشهورة في التراث العربي، وهي تحكي قصة طفل خلق في جزيرة في مكان ما، قرب خط الاستواء، بدون أبوين، أرضعته غزالة فقدت ابنها، ظناً منها أنه ابنها المفقود، وظلت ترعاه حتي كبر، ونجد تشابهاً في الأسماء بين الأسطورتين؛ فبطل المخطوطة هو سلامان، وهو علي وزن حي بن يقظان في الأسطورة الرئيسية، وتسمي حبيبته "أبسليون"، ويلاحظ تشابه الاسم في الجذر اللغوي مع "أبسال"، صديق حي بن يقظان، أما الغزالة الأم، فهي واحدة في الأسطورتين، وهكذا، تداخلت القصص الثلاث بطريقة انسيابية وطبيعية، فأثرت كل منهم أختها. استخدم عمرو عافية مستويات عدة من اللغة، فنري الفصحي العالية علي لسان البطل، وقد تسربت إليها بعض مفردات من المعجم، مثل "غُلمة"، التي تعني الشبق، و"اكتري"، أي استأجر، وذلك أمر طبيعي، لأنه محقق في التراث، وأستاذ جامعي، فكان المستوي مناسباً لثقافة البطل، كما نري لغة مريم المتواضعة مثلها، وغالباً ما تردد كلمة: "صح؟" وذلك سبب عدم ثقتها في قدراتها، وبخاصة وهي تتخاطب مع البطل، الذي يتفوق عليها علمياً وثقافياً، ثم لغة غرام الطبيبة، المنتمية لأصل أوروبي، فطبيعي أن تتسرب بعض المفردات الإفرنجية إلي لغتها، ولا يشف هذا التعدد في مستويات اللغة، إلا عن روائي متمرس ومحترف، هذا بالإضافة لورود جمل تكشف عن مستويات عدة من العقد الدرامية؛ فحين أراد التعبير عن الحب المستحيل بينه وبين مريم تصرفات غامضة رغم أن هذا الحب سيترك أثراً لا ينمحي عند الطرفين، نري مريم تقول: "أنت بالنسبة لي وشم، ولو تركتك أو تركتني، ستكون قد وشمت روحي للأبد"، وعند تعليقه علي الزهور التي أهدتها له مريم يقول: "تقبع هذه الزهور في مزهرية..جفت كلها، لكنها للعجب تحتفظ بألوانها الجميلة". ومع نهاية الرواية، يتكشف لنا أن سلامان، أو عربيد عشق آباد، هو بطل الرواية الذي لم يشأ أن يكون له اسماً مستقلاً عن عربيده، فكان لابد من اتساع رقعة المخطوطة، من أجل تفسير بعض التصرفات الغامضة، مثل كراهيته للعلاقة الحميمة مع زوجته، وعدم قدرته علي الاقتراب من مريم جسدياً، حين أتيح له هذا، بسبب كراهيته لرائحة اللبن المتخثر، المنبعثة من جسدها، ومن هنا، كان رجوعه للمخطوطة المتكرر، بحثاً عن إشباع لروحه، وأخيراً، يقرر أن يترك مريم وغرام، ويسافر وراء مخطوطة أخري مكملة لمخطوطته، موجودة في بلاد المغرب العربي، علم بوجودها عن طريق محققة تراث مغربية، تسمي غزالة، فيسافر العربيد وراء "الغزالة"، الاسم والمعني، فهي أصل وجوده، ويكتشف أنه يبحث عن ذاته الضائعة، ويصل الخط الدرامي ذروته، حين يتقابل في المغرب مع رجل مسن تخطي المئة، يسأله عن مكان "زرزورة"، وهي الواحة الموجود بها المخطوطة، فيجيبه الرجل برموز لغوية، يعلم منها أنه لا وجود لهذه الواحة علي الأرض، بل هي في قلب كل باحث عن المعرفة، فكانت في قلب "شهريار" الذي تحول إلي فكر خالص، و"عطيل" الذي قتله الشك، و"هاملت" الذي قتلته أشباح الوهم، في محاولة الوصول للحقيقة، وتظل "زرزورة"، هي واحة العلم المفقودة، "وكأن كل واحة مفقودة هي زرزورة"، إنها فردوس "ملتون" الذي لا يوجد سوي في قلوب وعقول الشعراء والفنانين والباحثين عن الجمال، وهي نبع الحب المتجدد، الذي تتفتح أزاهيره لمن يجده، "تباعدت كل النساء اللائي عشن في حياتي..يا إلهي سوف أنظر إلي النبع وأري وجه من أحب"، وتنتابه حالة من النشوة الصوفية، فيسلك معارج الوجد، حتي يري وجه من أحب، "وترقرقت مياه النبع..ونظرت فوجدتني عارياً كما خلقت بأوائل الدهر..وهناك بهرني جمال الشكل والروح، وأدركت أن هذا هو حبيبي الذي أنشده منذ الأزل"، وهكذا، وصل العربيد لنهاية المطاف: "رقدت وشعرت بالدفء. أتاني العربيد يردد حلمي كذكري من عصر ماض، عشق آباد، وما أدراك ما عشق آباد، ويقول لي مردداً: إنه أنا، إنه أنا، ثم تعالي صوت الجميلة ذات الأوشام السبعة، ترتل بصوت عذب: يامن الكل به واحد، وهو في الكل موجود.