لم يحظ فنان بما حظي به الفنان الكبير وديع الصافي من تكريم واحتفاليات ودروع وشهادات تقدير وعرفان بفضله علي صورة الغناء في لبنان ومحيطه العربي، وآخر هذه التكريمات كان الأسبوع الماضي حيث خصته مهرجانات "بيبلوس 2010 " بافتتاح تكريمي بمناسبة بلوغه التسعين، تصدر الحضور الرئيس اللبناني العماد ميشال سليمان والسيدة عقيلته، ليجتمع رئيس الدولة مع رئيس دولة الغناء، اللذان كانا أفضل خيار فني للمشاركة في هذا الحدث الكبير والذي أثبت أن اللبنانيين يقدرون كبارهم من خلال حشد نادر من الجمهور جاء لتحية وديع وإعلان الفرح بتواصل الأجيال مع تكريم نجوي كرم ووائل كفوري له ، في مهرجان يتقدم بثقة للمنافسة القوية علي الصدارة مع زميليه بعلبك وبيت الدين.. العجوز الشاب روح وديع هي التي حضرت أكثر من صوته، فإذا بكل النغمات التي هضمها علي مدي 70 عامًا من العطاء حاضرة بشكل متين في الموهبة العظيمة، وعندما شاركه الجمهور الغناء ضاعف جهده وراح ينتفض بطريقة جعلتنا نخاف عليه من أي طارئ، لكنه أفلت من الرهان وتابع معتبرًا أن الخبرة الطويلة التي عاشها كفيلة بأن تعطيه طاقة بديلة يعتمد عليها في الحضور الآسر الذي لطالما واكبناه في معظم إطلالاته الفنية والإعلامية علي حد سواء.. ما من شك بأن الفنانة نجوي كرم هي الصوت النسائي الوحيد القادر علي مجاراة خصوصية صوت وديع لذا فهي لم تتردد لحظة في البدء ب "يا ابني"، التي تحتاج إلي قدرة استثنائية للإحاطة بتنوع طبقاتها فأدتها بشكل رائع. ولد وديع الصافي في 1 نوفمبر عام 1921 في قرية "نيحا الشوف" بلبنان وهوالابن الثاني في ترتيب العائلة المكونة من ثمانية أولاد كان والده بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس، رقيبا في الدرك اللبناني. عاش طفولة متواضعة، وفي عام 1930، نزحت عائلته إلي بيروت ودخل وديع الصافي مدرسة "دير المخلص" الكاثوليكية، فكان الماروني الوحيد في جوقتها والمنشد الأوّل فيها. وبعدها بثلاث سنوات، اضطر للتوقف عن الدراسة، لأن جوالموسيقي هوالذي طغي علي حياته من جهة، ولكي يساعد والده من جهة أخري في إعالة العائلة. كانت انطلاقته الفنية سنة 1938، حين فاز بالمرتبة الأولي لحنًا وغناء وعزفًا، من بين أربعين متسابقا، في مسابقة للإذاعة اللبنانية، أيام الانتداب الفرنسي، في أغنية "يا مرسل النغم الحنون" للشاعر المجهول آنذاك (الأب نعمة اللّه حبيقة). وكانت لجنة التحكيم مكونة من : "ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام"، الذين اتفقوا علي اختيار اسم "وديع الصافي" كاسم فني له، نظرًا لصفاء صوته. فكانت إذاعة الشرق الأدني، بمثابة معهد موسيقي تتلمذ وديع فيه علي يد ميشال خياط وسليم الحلو، اللذين كانا لهما أكبر الأثر في تكوين شخصيته الفنية. كما لعب الشاعر أسعد السبعلي دورًا مهمًّا في تبلّور الأغنية الصافية. فكانت البداية مع "طل الصباح وتكتك العصفور" سنة 1940. ولا أحد يستطيع أن ينسي أول لقاء له مع محمد عبد الوهاب، سنة 1944 حين سافر وديع إلي مصر. وسنة 1947سافر مع فرقة فنية إلي البرازيل حيث أمضي ثلاث سنوات في الخارج. بعد عودته من البرازيل، أطلق أغنية "عاللوما"، فذاع صيته بسبب هذه الأغنية التي صارت تردد علي كل لسان، وأصبحت بمثابة التحية التي يلقيها اللبنانيون علي بعضهم بعضا. وكان أول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة وباللهجة اللبنانية بعدما طعمها بموال "عتابا" الذي أظهر قدراته الفنية. نهضة الأغنية في أواخر الخمسينات بدأ العمل المشترك بين العديد من الموسيقيين من أجل نهضة الأغنية اللبنانية انطلاقا من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات "بعلبك" التي جمعت وديع الصافي، وفيلمون وهبه، والأخوين رحباني، وزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي، وغيرهم. مع بداية الحرب اللبنانية، غادر وديع لبنان إلي مصر سنة 1976، ومن ثم إلي بريطانيا، ليستقر سنة 1978 في باريس. وكان سفره اعتراضا علي الحرب الدائرة في لبنان، مدافعا بصوته عن لبنان الفن والثقافة والحضارة. فكان تجدد إيمان المغتربين بوطنهم لبنان من خلال صوت الصافي وأغانيه الحاملة لبنان وطبيعته وهمومه. منذ الثمانينات، بدأ الصافي بتأليف الألحان الروحية، نتيجة معاناته من الحرب وويلاتها علي الوطن وأبنائه واقتناعًا منه بأن كل أعمال الإنسان لا يتوجها سوي علاقته بالله. سنة 1990، خضع لعملية قلب مفتوح، ولكنه استمر بعدها في عطائه الفني بالتلحين والغناء. فعلي أبواب الثمانين من عمره، لبي الصافي رغبة المنتج اللبناني "ميشال الفترياديس" لإحياء حفلات غنائية في لبنان وخارجه، مع المغني "خوسيه فرنانديز" وكذلك المطربة "حنين"، فحصد نجاحا منقطع النظير أعاد وهج الشهرة إلي مشواره الطويل. لم يغب يوما عن برامج المسابقات التليفزيونية الغنائية قلبا وقالبا فوقف يشجع المواهب الجديدة التي رافقته وهويغني أشهر أغانيه. يحمل الصافي ثلاث جنسيات، المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلي جانب جنسيته اللبنانية، إلا أنه يفتخر بلبنانيته ويردد أن الأيام علمته أنه ما أعز من الولد إلا البلد. سنة 1989، أقيم له حفلة تكريم في المعهد العربي في باريس بمناسبة اليوبيل الذهبي لانطلاقاته وعطاءاته الفنية. مهرجانات بيبلوس وفقت تماما هذا العام في خيارها لهذا العام، خصوصا الطريقة التي اعتمدت لتكريم هامة فنية لبنانية مخضرمة بحجم الكبير وديع الصافي. وقد جاء اختيار نجوي ووائل مناسبا جدا, فالصافي الكبير احتاج لمن يستطيع حمل نتاجه , وتوصيله في مهرجان محترم وراق إلي جمهور خاص. تسعون وديع الصافي كانت احتفالية نموذجية تقديرا لكبير لم يزل حاضرا صورة وصوتا.. فقد غني علي مدار ما يزيد علي السبعة عقود للعديد من الشعراء، خاصة أسعد السبعلي ومارون كرم، وللعديد من الملحنين أشهرهم الأخوان رحباني، زكي ناصيف، فيلمون وهبه، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، رياض البندك. ولكنه كان يفضل أن يلحن أغانيه بنفسه لأنّه كان الأدري بصوته، ولأنّه كان يدخل المواويل في أغانيه، حتي أصبح مدرسة يحتذي بها. غني الآلاف من الأغاني والقصائد، ولحّن منها العدد الكبير. كرمه أكثر من بلد ومؤسسة وجمعية وحمل أكثر من وسام استحقاق منها خمسة أوسمة لبنانية نالها أيام كميل شيمعون، فؤاد شهاب وسليمان فرنجية وإلياس الهراوي. أما الرئيس اللبناني السابق إميل لحود فقد منحه وسام الأرز برتبة فارس. ومنحته جامعة الروح القدس في الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقي في 30 يونية 1991.