إضافة كلية طب العريش إلى منصة «ادرس في مصر» بكافة تخصصاتها    يورتشيتش يمنح لاعبى بيراميدز إجازة 10 أيام بعد التأهل لمجموعات أبطال أفريقيا    مدرب مانشستر يونايتد يكشف أسباب التعادل مع كريستال بالاس    هل يُمكن استخدام السيارات الكهربائية في عمليات تفجير عن بُعد؟.. خبير سيبراني يوضح    وزير الخارجية: نرفض أي سياسات أحادية للمساس بوحدة أراضي الصومال    أحمد موسى: حزب الله معندوش قرار حتى الآن لضرب معسكرات الجيش الإسرائيلي    عبد العاطي يلتقي وكيلة السكرتير العام للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية    المحطات النووية تدعو أوائل كليات الهندسة لندوة تعريفية عن مشروع الضبعة النووي    نائب محافظ قنا: مبادرة «بداية جديدة لبناء الإنسان» تعزز مقومات التنمية الشاملة    هل تشهد مصر سيول خلال فصل الخريف؟.. خبير مناخ يوضح    التحريات تكشف ملابسات مصرع ابن المطرب إسماعيل الليثي في الجيزة: سقط من الطابق العاشر    مياه الأقصر تنفي انقطاع المياه أو تلوثها داخل المحافظة    انطلاق فعاليات المرحلة الخامسة لمسرح المواجهة والتجوال من قنا    حصلنا على التصريح من الرقابة.. منتج فيلم «التاروت» يكشف حقيقة مشهد خيانة رانيا يوسف لحبيبها مع كلب    تجديد الثقة في المخرج مسعد فودة رئيسا لاتحاد الفنانين العرب بالتزكية    أحمد سعد يعود لزوجته: صفحة جديدة مع علياء بسيونى    قناة «أغاني قرآنية».. عميد «أصول الدين» السابق يكشف حكم سماع القرآن مصحوبًا بالموسيقى    قرارات عاجلة من إدارة الأهلي بعد التأهل لمجموعات أفريقيا قبل مواجهة الزمالك    حزب المؤتمر: منتدى شباب العالم منصة دولية رائدة لتمكين الشباب    موسم شتوي كامل العدد بفنادق الغردقة.. «ألمانيا والتشيك» في المقدمة    "علم الأجنة وتقنيات الحقن المجهري" .. مؤتمر علمي بنقابة المعلمين بالدقهلية    فصائل فلسطينية: استهداف منزلين بداخلهما عدد من الجنود الإسرائيليين ب4 قذائف    تعرف على أهداف منتدى شباب العالم وأهم محاوره    الحكومة تكشف مفاجأة عن قيمة تصدير الأدوية وموعد انتهاء أزمة النقص (فيديو)    بلقاء ممثلي الكنائس الأرثوذكسية في العالم.. البابا تواضروس راعي الوحدة والاتحاد بين الكنائس    هل يمكن أن يصل سعر الدولار إلى 10 جنيهات؟.. رئيس البنك الأهلي يجيب    عبدالرحيم علي ينعى الشاعر أشرف أمين    بيكو للأجهزة المنزلية تفتتح المجمع الصناعي الأول في مصر باستثمارات 110 ملايين دولار    السجن 6 أشهر لعامل هتك عرض طالبة في الوايلي    تدشين أول مجلس استشاري تكنولوجي للصناعة والصحة    إيطاليا تعلن حالة الطوارئ في منطقتين بسبب الفيضانات    كاتبة لبنانية لإكسترا نيوز: 100 غارة إسرائيلية على جنوب لبنان وهناك حالة توتر    شروط التحويل بين الكليات بعد غلق باب تقليل الاغتراب    فتح باب التقديم بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الدينى    توتنهام يتخطى برينتفورد بثلاثية.. وأستون فيلا يعبر وولفرهامبتون بالبريميرليج    وكيل صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى الشيخ زويد المركزى ووحدات الرعاية    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء استعدادات المحافظات لاستقبال العام الدراسي 2024-2025    بلد الوليد يتعادل مع سوسيداد في الدوري الإسباني    الاستخبارات الهنغارية تؤكد أنها لم تنتج أجهزة "البيجر" التي تم تفجيرها في لبنان    إصابة 3 أشخاص في حادث تصادم «توك توك» بدراجة نارية بالدقهلية    بالصور.. إصلاح كسر ماسورة مياه بكورنيش النيل أمام أبراج نايل سيتي    علاج ارتفاع السكر بدون أدوية.. تناول هذه الفاكهة باستمرار للوقاية من هذا المرض    اليوم العالمي للسلام.. 4 أبراج فلكية تدعو للهدوء والسعادة منها الميزان والسرطان    بطاقة 900 مليون قرص سنويًا.. رئيس الوزراء يتفقد مصنع "أسترازينيكا مصر"    بداية جديدة لبناء الإنسان.. فحص 475 من كبار السن وذوي الهمم بمنازلهم في الشرقية    حزب الله يعلن استهداف القاعدة الأساسية للدفاع الجوي الصاروخي التابع لقيادة المنطقة الشمالية في إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا    هانسي فليك يفتح النار على الاتحاد الأوروبي    المشاط تبحث مع «الأمم المتحدة الإنمائي» خطة تطوير «شركات الدولة» وتحديد الفجوات التنموية    ضبط شركة إنتاج فني بدون ترخيص بالجيزة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة البحيرة    توجيهات عاجلة من مدبولي ورسائل طمأنة من الصحة.. ما قصة حالات التسمم في أسوان؟    اسكواش - نهائي مصري خالص في منافسات السيدات والرجال ببطولة فرنسا المفتوحة    حكاية بطولة استثنائية تجمع بين الأهلي والعين الإماراتي في «إنتركونتيننتال»    فيديو|بعد خسارة نهائي القرن.. هل يثأر الزمالك من الأهلي بالسوبر الأفريقي؟    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    ضحايا جدد.. النيابة تستمع لأقوال سيدتين يتهمن "التيجاني" بالتحرش بهن في "الزاوية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأوراق الخاصة للأب "متى المسكين"
نشر في البوابة يوم 11 - 06 - 2016

تخاف مجتمعاتنا من المختلف، ترتعب من كل ذى فكر جديد، والكنيسة جزء من هذا المجتمع. كانت المشكلة الكبرى للأب متى المسكين هى حصوله على أقوال الأباء الأوائل للمسيحية فى العالم باللغة الإنجليزية، فقرأها بنهم واكتشف الفرق الكبير بين التعاليم التى جاءت للكنيسة القبطية من مصادر بروتستنتانتية وغربية، وعندما أعلن هذه الأقوال حدث زلزال فى الكنيسة، وبدلًا من الالتفات إلى أقوال الآباء ومصادرها تحول الهجوم إلى الأب متى الذى اكتشف هذا النبع. وفى المؤتمر الدولى عنه فى إيطاليا بمناسبة الذكرى العاشرة لنياحته، كشف الأنبا ابيفانيوس، أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار، عن أثر هذا التعليم على أفكار وحياة الأب متى، ولخصها فى أربع نقاط ذكرها فى كلمته بالمؤتمر.
متى المسكين والانفتاح على الكنائس
من الصعب على غير الدارسين لتاريخ الكنيسة القبطية فى العصر الحديث أن يُدركوا مدى الأثر الذى تركه الأب متى المسكين فى نظرة الأقباط للكنائس الأخرى، أو مدى تأثير الأب متى المسكين على الحياة الرهبانية، وعلى حقل الدراسات الآبائية والإنجيلية فى مصر.
ففى النصف الأول من القرن العشرين، بَدَأَت فى مصر حركة مدارس الأحد التى كان يقودها الأرشيدياكون حبيب جرجس، الذى اعترفت الكنيسة القبطية بقداسته منذ ثلاثة أعوام. وكان كل ميراث هذه الحركة يتمثَّل فى كتابات جدلية وكتابية واردة من الكنائس الأخرى، ولم يكن هناك أى دراسات آبائية معروفة أو تفاسير للكتاب المقدس فى يد القارئ القبطى باللغة العربية، سوى بعض الكتب المترجمة عن كُتَّاب من الكنائس البروتستانتية. وكانت أهم هذه الكتابات وأكثرها شيوعًا تفاسير ف. ب. ماير Fredereick Brotherton Meyer، ومتى هنرى Matthew Henry. وعلى هذه الكتابات تتلمذ معظم قادة الكنيسة فى ذلك الوقت. وفى حقل الدراسات اللاهوتية لم تكن الكنيسة تعرف سوى كتاب: «علم اللاهوت» - تأليف القمص ميخائيل مينا ناظر مدرسة الرهبان فى ذلك الوقت، وكان قد قام بتأليف هذا الكتاب عام 1938م، ويتبع فيه نظام اللاهوت الغربى المعروف باسم: «اللاهوت النظامي».
وفى عام 1951م، صَدَر للأب متى المسكين كتاب: «حياة الصلاة الأرثوذكسية»، وهو أول كتاب يصدر له بعد تكريس حياته للرهبنة بثلاث سنوات فقط، وكان لهذا الكتاب صدى واسع عند الناطقين باللغة العربية داخل مصر وخارجها، حتى أنَّ جناب المطران جورج خضر، مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس، قال: «إنَّ هذا أول كتاب فى العصر الحديث لكاتب قبطى يتتلمذ عليه الروم».
لم يكن هذا الكتاب مجرَّد بحث فى أصول الروحانية الأرثوذكسية، بل كان نافذة أطلَّ منها الأقباط على ماضى حياتهم الروحية والآبائية والرهبانية، وكان له تأثيرٌ بالغ فى حياة الآلاف من الأقباط، الذين صار منهم الكثير من قادة الكنيسة بعد ذلك، بل كان له تأثير فى الكثير من الحركات الرهبانية خارج مصر، خاصة فى السنوات الأخيرة، بعد أن تمَّ ترجمته للُّغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأوكرانية.
ولعل من أهم ما تضمَّنه هذا الكتاب، وكان له أثرٌ كبير لم نشعر به إلاَّ بعد مرور سنوات طويلة، هو ذِكْر أقوال لقدِّيسى الكنيسة غير الأقباط، أى من الكنيسة الجامعة، والتى لا تعرفهم الكنيسة القبطية، مثل: القديس غريغوريوس الكبير، والقديس يوحنا الدمشقى، والقديس ساروفيم ساروفسكي، مما فتح للأقباط نافذة جديدة على الكنائس الشقيقة الأخرى، التى كُنَّا ننظر إليها، ولسنواتٍ طويلة، على أنها كنائس مُعادية لنا، فإذا بنا نقرأ سِيَر قدِّيسيها وأقوالهم، ونتمثَّل بحياتهم. وكان هذا إيذانًا بقبولنا الآخر الذى لم تستطع الحوارات المسكونية حتى الآن أن تُحقِّقه.
ولقد أدرك الأب متى المسكين وقتها أهمية هذا الكتاب، فكتب فى عام 1968م فى مُقدِّمة الطبعة الثانية، تعليقًا على كلمة المطران جورج خضر: «إنَّ الله اختار هذا الكتاب ليكون فيه كلمة مُصالحة ونقطة تقابُل، لا على صعيد الحوار الفكرى أو الجَدَل اللاهوتى، بل على مستوى وحدة الحياة الروحية وتجلِّيات الإيمان الذى يتجاوز العجز اللفظى إلى نور الحق الإلهى المُعاش».
ثم بدأ الأب متى المسكين يذكر فى عظاته أسماء قدِّيسين غربيين كان لهم تأثيرٌ فى حياته الروحية، ومسيرته الرهبانية، مثل: القديسة تريزا الطفل يسوع، والقديس فرنسيس الأسيزى. فكان لمثل هذه الكتابات والأقوال أثرٌ فعَّالٌ فى حياة الأقباط تجاه قدِّيسى الكنيسة الجامعة، مع الإحساس العميق بوحدانية جسد المسيح. ولعل تواجدنا كأقباط الآن فى دير كنيسة شقيقة، لهو إحدى ثمار مثل هذه الكتابات. وأيضًا التواجُد المستمر لرهبان وراهبات من الكنائس المختلفة فى أديرة الكنيسة القبطية على مدار العام، لهو ثمرة أيضًا لروح الحبِّ والتفاهُم التى غرستها فينا كتابات الأب متى المسكين.
أتذكَّر أنه فى أول زيارة لى إلى إيطاليا لحضور المؤتمر الدولى للدراسات القبطية، الذى نظَّمته الجمعية الدولية للدراسات القبطية (International Association for Coptic Studies)، والذى انعقد عام 2012م، أنه فى أثناء زيارتنا لكاتدرائية ميلانو، أنْ تقابلنا مع الآباء المسئولين عن هذه الكاتدرائية، وبمجرد أن عرفوا أننا من مصر، كان أول سؤال يطرحونه علينا: «هل تعرفون الأب متى المسكين»؟ وكانت مفاجأة لنا. فأشار الأب الأسقف المسئول عن الوفد المصرى نحوى وقال: «هذا ابنه»! فأَقْبَلَ عليَّ الآباء يُقبِّلوننى ويُحيوننى بحرارة!
فلما استفسرنا منهم عن سبب سؤالهم هذا؟ قالوا لنا نحن من تلاميذ الأب متى المسكين، وفى ديرنا نقرأ كتاباته كل يوم. وقتَها علمتُ بمدى أهمية ما قام به دير «بوزى» هنا فى إيطاليا من ترجمة كتابات الأب متى المسكين إلى الإيطالية، فى أسلوبٍ جميل وإخراجٍ رائع، مِمَّا أتاح لأشقَّائنا فى كنيسة روما بالتعرُّف على الكنيسة القبطية من خلال تلك الترجمات.
متى المسكين والتجديد الرهباني
عندما بدأ الأب متى المسكين حياته الرهبانية، كانت الأديرة القبطية فى حالٍ يُرثَى لها، فأعداد الرهبان كانت قد تناقصت كثيرًا، ومبانى الأديرة آل بعضها للسقوط، خاصةً دير القديس أنبا مقار، ولم يكن بالأديرة أيُّ رهبان من خريجى الجامعات أو من المُنكَبِّين على الدراسات القبطية والإنجيلية سوى النزر القليل.
ومنذ أول يوم لتكريس حياته للرهبنة، وضع الأب متى المسكين فى قلبه أن يحيا حياة رهبانية تقوم على مبادئ الإنجيل ووصايا قدِّيسى الرهبنة، خاصةً أنبا أنطونيوس وأنبا مقار وأنبا باخوميوس. فكان أول كتاباته الرهبانية بعنوان: «أنبا أنطونيوس ناسك إنجيلي»، أوضح فيه الأساس الإنجيلى الذى تقوم عليه الحياة الرهبانية، والتى بدونها نصبح غرباء عن الطريق الصحيح. ثم بدأ عمليًّا فى إحياء حياة الرهبنة كمزيج بين حياة الوحدة كما عرفها القديس أنبا مقار، وحياة الشركة كما وضع أُسُسَها القديس أنبا باخوميوس.
فكان الأب متى المسكين هو أول من أعاد «مائدة الأغابي» - أغابى أى محبة وهى المائدة التى يأكل عليها الرهبان - التى يجتمع حولها الرهبان كل يوم، كطقس رهبانى أصيل، يُوحِّد الرهبان معًا فى خبز المحبة، بعد أن كان هذا الطقس قد اختفى من أديرتنا منذ مئات السنين. وقد سعدتُ جدًا عندما استضافنى الرهبان هنا لأخذ بركة الشركة فى مائدة المحبة الرهبانية، فوجدتُ فيهم نفس روح الشركة التى علَّمنا إيَّاها أبونا متى، مُناديًا أنَّ الشركة فى المائدة الواحدة هو امتدادٌ للشركة فى الإفخارستيا. كما وضع الأب متى أُسُس العمل اليدوى، كعملٍ مشترك لكلِّ رهبان الدير القادرين على العمل، واضعًا فى ذهنه أنه على الراهب أن يعول نفسه، وأن يُقدِّم فائض عمله لخدمة المحتاجين، حسب وصية آباء الرهبنة.
الأب متى المسكين والتعليم الكنسي
أحدثت كتابات الأب متى المسكين تغييرًا ملحوظًا فى مجال التعليم فى الكنيسة القبطية. والسبب الحقيقى وراء هذا التغيير، أنَّ الأب متى المسكين لم يتتلمذ على اللاهوت القبطى المعاصر أو المستحدث الذى كان منتشرًا فى ذلك الوقت، إذ أنه بتدبيرٍ إلهى، حسب تعبيره، حصل على مجموعة كاملة لأقوال الآباء مُترجمة إلى اللغة الإنجليزية، فقرأها بنهَمٍ. فانطبع فكر الآباء على تفكيره، واصطبغت حياته بسِيَر قدِّيسى الكنيسة. فخرجت كتاباته لها طعم كتابات آباء الكنيسة، دون الحاجة لذِكْر نصوص كثيرة حرفية لهم. فلأول مرة فى الكنيسة القبطية فى العصر الحديث نرى كتابات عن الروح القدس وحلوله فينا، وقيادته لنا فى جهادنا الروحى. وكنتيجة مباشرة لهذه الكتابات تغيَّر مفهوم الجهاد فى الحياة الرهبانية، فأصبح النُّسك الرهبانى ثمرةً لعمل الروح القدس فينا، وأصبح الجهادُ الروحى تقدمةَ شكرٍ نُقدِّمها لله كل يوم عرفانًا مِنَّا بالفداء الذى نلناه نتيجة لذبيحة الصليب. أليس هذا تمامًا ما كان يُنادى به القديس أنطونيوس الكبير فى رسائله وأقواله لأبنائه الرهبان؟
وهكذا فى مفهوم الأب متى المسكين للأعياد الكنسية: فميلاد الرب يسوع، هو ميلاد الإنسان الجديد، ومعموديته وحلول الروح القدس عليه فى الأردن، هو معمودية الخليقة الجديدة وتَصَالحُها مع الله لقبول سُكْنى الروح القدس الدائم فيها، وصليب الرب هو صليبنا نحن، لأننا كُنَّا فى المسيح، مُتَّحدين به، وبالتالى عندما قام المسيح من بين الأموات، كُنَّا جميعًا قائمين فيه: «مع المسيح صُلِبْتُ»، «أقامَنى معه وأَجلَسنى معه فى السماويَّات». أليس هذا هو مفهوم التجسُّد والفداء كما شرحه آباء وقدِّيسو الكنيسة؟
هذه المفاهيم الآبائية تغلغلت فى جميع كتابات الأب متى المسكين، فأحسَّ بها القارئ المسيحى بِغَضِّ النظر عن انتمائه الطائفى، وأيقن أنَّ هذه الكتابات تخصُّه هو. وهكذا مرَّةً أخرى، أصبحت هناك وحدة غير مُعلَنَة بين الكثير من القُرَّاء بسبب تلك الكتابات. وقد شعرنا، نحن أولاده، بهذه الوحدة من الصداقات التى تكوَّنت لدينا من جميع الطوائف المسيحية، ومن روح المحبة التى لمسناها من إخوتنا فى الكنائس الأخرى.
الأب متى المسكين والوحدة الكنسية
فى يناير عام 1965م، كتب الأب متى المسكين مقالًا بعنوان: «الوحدة المسيحية»، بثَّ فيه أَفْكَارَه وتَصوُّراته حول مفهوم الوحدة المسيحية وكيفية تحقيقها، مؤكِّدًا أننا لا نُريد وحدةً عاطفية تكون لمجد الإنسان وتعظيم الذات البشرية، مثلما حاول الإنسان فى القديم أن يُقيم وحدةً الغرض منها بناء برج بابل، فكانت النتيجة التَّفتُّت والانقسام، ولا أن تكون وحدةً قائمةً على التكتُّل ليتقوَّى الضعيف بالقويِّ، وليزداد القويُّ قوةً وسُلطاناً، بل تكون وحدةً على مستوى إلهى، كنتيجة حتمية لاتِّحاد الإنسان بالله، أى نتيجة لوصية الله الأولى: «تحب الرب إلهك من كلِّ قلبك، ومن كلِّ نفسك، ومن كلِّ فكرك، ثم الوصية الثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك».
فالوصية الثانية قائمة على الأولى، وبدونها لا تساوى شيئًا. يقول الأب متى المسكين: «الطريق الموصِّل إلى الاتحاد بالله ليس طريقًا مُفردًا، أى ينتهى عند الله وحسب، بل يعود وينحدر إلى القريب وإلى الغريب وإلى العدو وإلى كل الخليقة. والذى يتَّحد بالله يلزم فى الحال أن ينظر كيف يتَّحد بالكلِّ ولا يهدأ حتى يكمل هذا الاتحاد».
ثم يعود فى عام 1972م، ويكتب مقالًا فى مجلة «النور» اللبنانية للروم الأرثوذكس، يقول فيها: «إنَّ عدم اكتمال جامعية الكنيسة ووحدتها حتى الآن بين كنائس العالم، إنما يُلحُّ علينا جميعًا، لا أن نُراجع لاهوتنا، فلاهوتنا صادقٌ جدًا وأمين، بل أن نُراجع أنفسنا على لاهوتنا الصحيح حتى نُصحِّح رؤيتنا لله كأبٍ واحدٍ لكلِّ البشر، ونُصحِّح إدراكنا للمسيح كمُخلِّصٍ واحدٍ وفادٍ، واحدٍ لكلِّ مَن يدعو باسمه، الذى تبنَّى الإنسانية كلها لله بدون تمييز، ثم نُصحِّح حُبَّنا للإنسان، كل إنسان، باعتباره أخًا لنا بالالتزام، حتى ولو ناصَبَنَا العداء».
ثم لكى يؤكِّد على أنَّ الوحدة ليس معناها التنازُل عن العقيدة، يكتب كُتيِّبًا فى عام 1984م بعنوان: «الوحدة الحقيقية ستكون إلهامًا للعالم»، يضع فيه تصوُّرًا بسيطًا لخطوات إيجابية تُساعد على الوحدة بين الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين:
فالخطوة الأولى: أن تتبادَل الكنائس فى وقتٍ واحد رفْعَ الحرمان، الواحدة عن الأخرى، لأن هذا الحرمان هو ضد مشيئة الروح القدس، وقد حَدَثَ عن جهل كلِّ كنيسة بروح وضمير الكنيسة الأخرى، وبسبب التمسُّك بالحرف لا بالروح، (كل كنيسة تحرم الأخرى وتعتبرها خطأ وهى الصح).
والخطوة الثانية: الاعتراف المتبادَل والمُتزامِن بين الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين (الذين يؤمنون بطبيعة المسيح الواحدة والذين يؤمنون ان له طبيعتين إلهية وبشرية) بعقيدة كلٍّ منهما على أساس الجوهر لا المضمون، أى على أساس موجبات الخلاص والحياة الأبدية الذى تُوفِّره عقيدة كلٍّ منهما بواسطة يسوع المسيح العامل فيهما بصورة واحدة برغم اختلاف النصوص.
والخطوة الثالثة: الدخول فى حوار المضمون، ورَفْع الغموض بالشرح، وليس بالحذف، أو بالإضافة فى بنود العقيدة المُسلَّمة حرفيًا بالتقليد لكلٍّ منهما، لتوفير صيغة مُصالحة تتناسب مع وحدة الشركة والروح، دون المساس بكلِّ ما يتعلَّق بتاريخ العقيدة وتفرُّعاتها من مؤلَّفات ومجامع.
لقد آمن الأب متى المسكين أنَّ الوحدة المسيحية يمكن أن تتحقَّق، ليس عن طريق الحوار المسكونى بالدرجة الأولى، ولكن عن طريق قدِّيسى كلِّ كنيسة، الذين بصلواتهم وسيرتهم سوف يُلهمون قادة الكنائس ما يُعينهم على إتمام الوحدة.
مشاهدات فى المؤتمر العالمي
انعقد فى دير «بوزيه Bose» بإيطاليا، يومَى السبت 21 والأحد 22 مايو سنة 2016م، المؤتمر الدولى حول الأب متى المسكين، بمُباركة قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وبحضور نيافة الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار الكبير - وادى النطرون، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لوفاة الأب القمص متى المسكين أب الدير (1919-8 يونيو 2006م)، والمُعتَبَر الأب الروحى للدير.
وقد اعتبره المُتحدِّثون فى المؤتمر أيضًا «الأب الروحى الكبير فى عصرنا الحاضر»، والمُعتَبَر أيضًا أحد أهم الشخصيات فى الحوار وبناء جسور التفاهُم بين مختلف الكنائس المسيحية فى عصرنا الحاضر.
وقد حضر المؤتمر أكثر من 200 شخص ما بين زائر ومُتحدِّث ومُشْتَرِك حول طاولة الحوار، وذلك من كثير من دول العالم: مصر، ولبنان، واليونان، وفرنسا، وأمريكا، وكندا، وإسبانيا، وسويسرا، والسويد، والنمسا.
كما شارَكَ فى إلقاء الكلمات علماء لاهوت، وآباء أساقفة، وأساتذة علم اللاهوت. كما حضره نيافة الأنبا أثناسيوس أسقف الكنيسة القبطية فى فرنسا، ونيافة الأنبا برنابا أسقف شمال إيطاليا، ونيافة الأنبا لوقا أسقف سويسرا، وكثير من الآباء الكهنة والرهبان الأقباط والأجانب، كما حضر المؤتمر مساعد رئيس أساقفة كانتربرى بإنجلترا.
وقد تحدَّث المُحاضرون عن الأب متى المسكين، ذاكرين سمات العلم اللاهوتى للأب متى المسكين وروحانيته، ومن الكلمات التى وصفت العلم اللاهوتى للأب متى المسكين، هو علم آبائى (علم الآباء مختص بدراسة آباء الكنيسة الأوائل والقديسين الكبار سيرة حياتهم وتعاليمهم وأقوالهم) أصيل نابع من حياة وتعاليم القديس أنبا أنطونيوس الكبير (مؤسس الرهبنة المسيحية فى مصر والعالم فى القرن الرابع الميلادى)، وقد قدَّمه الأب متى المسكين بصورةٍ مستنيرة اختبارية نتيجة علاقة وشراكة قوية مع الله.
كما أنَّ الأب متى المسكين عاش واختبر واقتبس من العلم اللاهوتى لقدِّيسى الكنيسة القبطية الإسكندرانية: القديس أثناسيوس الرسولى (واضع قانون الإيمان المسيحى الذى يبدأ بكلمة بالحقيقية نؤمن بإله واحد) والقديس كيرلس الكبير المسمى بعامود الدين.
والعلم اللاهوتى للأب متى المسكين، هو علم اختبارى مُستنير، مكتوب ومنطوق بلغة العصر، ولقد أدرك أبونا متى المسكين أنَّ الوحدة المسيحية، هى مَطْلَب إلهى يدلُّ على النُّضج الروحى، وقد اشترك الآباء السويديون مع الأب متى المسكين فى ضرورة طلب الوحدة، كما أوضح آخرون أنَّ الوحدة المسيحية لن تتمَّ إلاَّ بتربية النشء على الأخلاق المسيحية مع محبة المسيح داخل القلب.
وعن الكنيسة والدولة أوضح المُتحدِّثون أنَّ الأب متى المسكين ركَّز على أنَّ الكنيسة تخدم الدولة من خلال الصلاة وسلوكيات أبناء الكنيسة وأخلاقياتهم. وأن تكون مهمة الكنيسة هى الصلاة وتقديم الكتاب المقدَّس كمصدر للأخلاق المسيحية، كما تكلَّموا عن علاقة الأب متى المسكين بالرهبان: سَعَى إلى جَعْل علاقته، كأب لهم، علاقة محبة وأُبوَّة وليس سلطة. وسَعَى إلى تثقيفهم بدراسة لُغات الكتاب المقدَّس والآباء، وتوظيف مهارات الرهبان من خلال العمل الجماعى وحياة الشركة.
وقد عَرَضَ أحد المُتحدِّثين، وهو أستاذ جامعى فى إحدى جامعات فرنسا، خريطة تُظهِر مبانى الدير ومناطق الزراعة، كما صوَّر القبر الذى دُفِنَ فيه الأب متى المسكين كمغارة منحوتة فى الصخر. ثم صوَّر القبر وهو فارغ، كما صوَّره بعد أن دُفِنَ فيه الأب متى المسكين، وأوضح الأستاذ الجامعى، كيف أنَّ الأب متى المسكين أرجع نظام الشركة فى الدير، مُتَمَثِّلًا فى المائدة المشتركة التى يتناول عليها الرهبان الطعام معًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.