مساجد أسرة محمد علي تنهار.. ومبانٍ تآكلت بسبب التجاهل.. وقصور سقطت من دفاتر الذاكرة.. طنطا بلد الألف مئذنة منسية منذ آلاف السنين شرع المصريون فى بناء المجد وحدهم.. وخلد التاريخ أعمالهم؛ فقد حرصوا على أن تبقى آثارهم دليلا عليهم، ثم خلف من بعدهم خلق آخرون، جعلوا من آثارهم ضحية، تبكى وتبكينا عليها، بعد أن صارت مستباحة ينهبها الجميع، ولا تقدرها الدولة على مدار عشرات السنين، وأصبح ما تركه الأجداد عاريًا، كأنما لا أحفاد لهم.. عندما قررت أن أغوص فى بحر التاريخ المصرى كنت على يقين من أن تراب هذا الوطن يحمل من الأسرار ما لا ينضب، وكثيرا ما لاحظت، فى كل محافظة وطأتها قدماى أطلالا أثرية ذبحها الإهمال، حتى صارت أثرا بعد عين أو كادت. هذه المشاهدات دفعتنى إلى عمل تحقيق موسع أكشف خلاله أبعاد المؤامرة التى يتعرض لها التاريخ المصرى، لا سيما فى الحقبة التى حكمتها أسرة محمد على، تلك الفترة الغنية بالآثار المهمة، والمنكوبة فى الوقت ذاته بكل صنوف الإهمال والنهب والتدمير.. وفى رحلة البحث اكتشفنا تفاصيل لم تنشر من قبل، عن حالات التعدى التى وقعت لهذه الآثار، وكيف أنه لم يتم تسجيلها لدى الدولة كآثار تستحق الحماية، وكيف أن ما تم تسجيله منها عاش فاقدا لهذه الحماية أيضا حتى اندثر، وهو ما يوحى بأن هناك مؤامرة منهجية من البعض، لنهب هذه الثروة الضخمة وكأن صانعوها لم يعيشوا على أرض مصر من الأساس. وأمام تلك الحقائق المذهلة وجدتنى أقف مشدوهة وبين يدى سجل حافل وضخم من القصور والاستراحات الأثرية، التى قاربت على الضياع؛ نتيجة إهمال الدولة، وهالنى أن أجد تلك الآثار العظيمة وقد تفرق دمها بين وزارات الري، والزراعة، والأوقاف والتربية والتعليم، والإصلاح الزراعى فبحثت عن وزارة الآثار لكنى لم أجد لها أثرا بحجة أن هذه القصور لم يمر عليها 100 عام لذا فهى ليست خاضعة لقانون الآثار، ويا لها من كارثة حين نرى ثروة هائلة لا تقدر بثمن تنهار على أعتاب الإهمال، وتحت وطأة الروتين، والقوانين المجحفة!! وحتى لا يتحول هذا الملف لمجرد صرخة نطلقها، ثم يضيع صداها فى فضاء الإهمال، قررنا أن نخوض تجربة الكشف عن الكوارث الهائلة التى تعانيها آثار الأسرة العلوية، ليكون هذا الملف بداية لحملة نطلق شرارتها لإنقاذ ما تبقى من آثار التاريخ المصرى العريق. تستمر رحلة الكشف عن الآثار المنسية فى مصر، بصرف النظر عن حقبتها التاريخية، وإن كنا اليوم بصدد آثار الأسرة العلوية، حيث تمتلك كفر الشيخ مثلها مثل ما عرضنا فى الحلقة الماضية، عددا ضخما من الآثار يمثل مراحل التاريخ المصرى بأكمله ومن آثار الأسرة العلوية تضم كفر الشيخ قدرا لا بأس به، ولعل أهمه هو قصر الملك فؤاد، والذى تعرض لانتهاك مشين، ويرجع تاريخ إنشائه إلى عهد محمد على، وليس كما ينسبه البعض إلى الملك فاروق، إذ إن علاقة فاروق بهذا القصر تمثلت فى أنه أدخل عليه بعض التعديلات فقط، مثلما فعل أسلافه من الأسرة العلوية، ونزل به عام 1949. بتتبع تاريخ هذا القصر نعلم أنه تم بناؤه على الطراز الأوروبى «الإيطالى الفرنسي»، عام 1934، وهو مكون من طابقين ويمثل تحفة معمارية حضارية ممتازة، وملحق بالقصر محطة للسكة الحديد الملكية، بالإضافة إلى المطبخ وصهاريج المياه، على النسق ذاته الذى سبق ذكره عن الحديث عن قصر الفاروقية فى محافظة الشرقية، كما ترك الملك فؤاد أيضا، فى مدينة كفر الشيخ، المبنى الذى كان مخصصا لإدارة أملاكه الخاصة الملكية، ثم استغل بعد ذلك كمقر لتفتيش أوقاف كفر الشيخ. وفى عام 1961 تم استغلال هذا المبنى؛ ليكون مقرا لديوان عام محافظة كفر الشيخ بعد انفصالها عن الغربية، وتحولها إلى محافظة مستقلة فى ظل الحكم المحلى، وفى عام 1964 انتقلت المحافظة إلى مبناها الجديد، وتم تسليم هذا المبنى إلى مديرية التربية والتعليم. بعد ذلك تحول هذا المبنى إلى مقر لمركز الدراسات الوطنية، ويضم حاليا مركز النيل للإعلام، وجريدة كفر الشيخ، والصندوق الاجتماعى للتنمية، وقاعة المؤتمرات الرئيسية فى أعلى المبنى، وانتبهت الآثار للقصر وسجلته أثرا برقم 1490ن عام 1992، بناء على قرار من رئيس مجلس الوزراء، آنذاك، حدث هذا التسجيل «بعد خراب مالطة» - كما يقولون، إذ أن القصر كان فقد بهاءه الأثرى، كما أن تسجيله لم يحمه من استغلاله كمقر لمعهد الخدمة الاجتماعية، رغم أنه يمثل تحفة معمارية نادرة. نظرة واحدة ألقيتها على القصر، فجرت داخلى مشاعر الحزن والألم، فهو يعانى الآن من هبوط فى أرضيته، وتشققات فى جدرانه، وانتشار الرطوبة بشكل عام؛ ما أدى إلى سقوط دهانات أجزاء عدة من القصر، خاصة فى الدور العلوى للقصر. كما تدهورت الحالة الفنية للشرفة الحجرية بالدور الثانى، المحيطة بكامل الواجهة الرئيسية، حتى باتت معرضة للانهيار، كما سقط القرميد الذى يغطى الشرفات أعلى القصر. يعد فنار البرلس واحدا من أشهر الأماكن الأثرية فى مصر، ويقع بقرية الشيخ مبارك، بمركز بلطيم، ويطل مباشرة على البحر المتوسط، وصدر قرار تسجيله أثرا رقم 716 فى سنة 1999، تم نقل تبعية جسم الفنار وملحقاته المعمارية، والأرض المقام عليها، من الهيئة المصرية للسلامة الملاحية، هيئة الموانئ والمنائر سابقا، إلى وزارة الثقافة، بقرار جمهورى رقم 123 لسنة 1999، كما صدر للأثر قرار ضم حرم، من اللجنة الدائمة للآثار بتاريخ 27 أغسطس 2006. ويرجع الفنار إلى عصر الخديو إسماعيل فى القرن 19 وهو عبارة عن شكل هرمى مثلثى معدنى، يرتكز على ثلاث قوائم، ويبلغ ارتفاعه 55 مترا تقريبا ومثبت على قاعدة مستديرة، فى المنتصف، يبلغ وزنها 40 طنا تقريبا، ومصنوعة من الرصاص؛ لتكون مقاومة للعوامل الجوية كالرطوبة والحرارة والاهتزاز. فنار البرلس يمثل تحفة نادرة، ورغم ذلك لا يلقى العناية اللازمة، ما جعله بحاجة إلى ترميم شامل، ويذكر أن آخر عملية ترميم له كانت عام 1967، بمعرفة الهيئة المصرية لسلامة الملاحة البحرية. ومن بين الآثار المهملة فى كفر الشيخ نجد جامع محمد المغازى، الذى يقع بقرية سيدى غازى التى تبعد 20 كم شرق مدينة كفر الشيخ، وتم تسجيله أثرا برقم 74 لسنة 1988 وأنشأت هذا الجامع «خوشيار هانم»، والدة الخديو إسماعيل، المشهورة ب«الوالدة باشا»، فى عام 1284ه/ 1868، حيث سجل ذلك بنص تأسيسى أعلى فتحة الباب الرئيسى، وهو تحفة معمارية فريدة ويتميز بنقوشه ومئذنته وقبته ومدخله، وعن حالة المسجد كأثر حدث ولا حرج، فبه شرخ نافذ من الخارج فى الجدار الجنوبى الشرقى، وبعض الشروخ النافذة من الخارج فى الجدار الشمالى الغربى ناحية الميضأة، علاوة على تساقط بعض أجزاء من البلاط فى دخلات الشبابيك نتيجة الرطوبة والأملاح. سريعا انتقلنا إلى مدينة «بيلا»، التى كانت قرية تابعة لمديرية الغربية، يوجد بها أبعادية خوشيار هانم والدة الخديو إسماعيل، وكذلك مسجد سالم البيلى أبوغنام والذى يتوسط مدينة بيلا، وتم تسجيله برقم 512 لسنة 2001، وأنشئ سنة 1320ه -1892، وتسبب ارتفاع نسبة الرطوبة والأملاح، إلى تساقط طبقات الملاط فى أجزاء عديدة من جدران المسجد، مع انتشار الشروخ الرأسية والتنميل بجدرانه من الخارج والداخل. سريعا انتقلنا لمدينة «فُوة»، بضم الفاء وتشديد الواو، وهى قريبة من الإسكندرية، مدينة كبيرة وقديمة من مدن مصر، بمركز دسوق، وتقع على الشاطئ الشرقى لفرع رشيد، وتضم فوة مصنعا لنسج القطن، وورشة لصناعة الطرابيش، وكانت لها شهرة أيام محمد على باشا، وفى خارجها يقع قصر الست بيزادة، مرضعة «سر عسكر» والد الخديو، ولها بها أبعادية أخرى.