لا تميز وسط «متميزين»، ولا وصول إلى قمة يتربعها «عظماء»، دون امتلاك الأدوات والقدرات وطرق التفرد.. حقيقة أدركها وتزود بها الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى ابن قرية «شعشاع» إحدى قرى مركز أشمون بمحافظة المنوفية، عندما قرر تركها عام 1915، والتوجه إلى القاهرة ليشق طريقه فى «دولة التلاوة» وليصبح من خلال قدرته على تصوير كلمات الذكر الحكيم، أول من قرأ القرآن ب«التفسير». بدأ «الشعشاعي» طريقه نحو «الصيت والشهرة» المزودين بالموهبة بتأسيس فرقة «تواشيح دينية» ذاع صيتها بشكل كبير فى أواخر العشرينيات، وجذبت الآلاف من «المحبين والدراويش والمتابعين»، وضمت فى بطانتها «أسطورة التلحين» زكريا أحمد، ولأن «المريد» لا يرضى ب«البحر» بديلًا عن «المحيط»، قرر تركها واتجه لخوض أمواج «التلاوة». مسجد إمامنا «الحسين» كان البداية، وتحديدًا عام 1930، دخل «الشعشاعي» ساحة مسجد «سبط النبي» بخطوات ثابتة لم تخش أسماء المقرئين فى تلك الليلة: « محمد رفعت، أحمد ندا، على محمود، محمد جاد الله»، امتدت يداه لتلتقطا «الميكروفون»، وبدأ التلاوة ليبهر منافسيه قبل مستمعيه وليلتصق «الميكروفون» من حينها بيده «محبة واعترافًا بالموهبة والاختلاف». التقطت أذان مسئولى «الإذاعة» ذلك الصوت الندى، فعرضوا عليه عام 1936 الانضمام إلى قائمة قرائها، فخشى –مثله مثل كثير من القراء- تلك الخطوة شكًا فى حرمانيتها، ليجد بعد ذلك فى فتوى شيخ الأزهر وقتها محمد الأحمدى الظواهرى –تلميذ الإمام محمد عبده، ملجئًا وطريقًا للقراءة فى الإذاعة بعد إقرار الأخير بأن التلاوة فى الإذاعة «حلال حلال». ساهمت الإذاعة فى بلوغ سيل شهرة الشيخ «الُزبى»، الأمر الذى رفع أجره ليبلغ 500 جنيه سنويًا، بعد أن تساوى فى وقت سابق مع عظماء عصره «رفعت وندا والصيفي» ليبلغ 50 قرشًا فى الليلة، و25 جنيها فى الساعة و100 جنيه فى الليلة الواحدة، ليكون بذلك المقرئ الوحيد الذى ماثل «رفعت» فى الأجر. لم تقتصر «الشهرة» على رفع الأجر فحسب، بل جعلته «المقرئ الرئيسي» بجانب محمد رفعت فى مآتم كل من: «سعد زغلول، عدلى يكن، ثروت باشا، محمد محمود، أحمد ماهر، النقراشي»، بجانب اشتراكه فى إحياء مأتم والد الملك فاروق، وكونه أول من تلا بمكبرات الصوت فى الحرمين المكى والنبوى. وللشيخ «الشعشاعي» حكاية مع الملك فاروق تقول أحداثها إن «الشيخ» أقسم ألا يقرأ فى «القصر الملكي» مرة أخرى بعد أن علم أن «الملك» كان «يفسق» فى حجرة مجاورة للجناح الملكى الذى كان يتلو فيه القرآن خلال شهر رمضان، يقول عنه نجله صديق الشعشاعي: «عبد الحليم حافظ كان مطرب ثورة يوليو ووالدى مقرئها». وبعد اختياره رئيسًا ل«رابطة القراء المصريين»، اقترح إقامة حفل دينى أول كل شهر عربى يبث عبر الإذاعة ويشارك فيه كبار القراء، اقتداءً بحفلات أم كلثوم الشهرية، كما اشتهر بقراءة سورة الكهف كل جمعة بالإذاعة، التى تركها لفترة وجيزة بعد أن وجه أحد موظفيها عبارة اعتبرها الشيخ «إهانة». قرأ فى جميع المحطات العربية، وتميز بالصوت القوى الذى جعله يتلو بشكل «إعجازي» لساعات طويلة فى جموع من الناس دون استخدام مكبر للصوت، حتى أصبح المقرئ الوحيد الذى لم يقلد سابقيه ولم يقلده أيًا من تابعيه، الأمر الذى جعل مريدى «دولة التلاوة» يقارنون صوته بصوت كل من الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل بقولهم: «إذا كان صوت رفعت يشبه التفاح، وإسماعيل كالعنب البناتى، فإن الشعشاعى صوته يشبه الرمان». يحمل أرشيف «جريدة الاتحاد» العراقية فى عددها الصادر بتاريخ 5 يونيو 1989 حكاية أخرى عن «الشيخ الشعشاعي» تقول إنه بعد وفاة الملكة العراقية «عاليا»، أرسلت «بغداد» تطلب الشيخين أبو العينين شعيشع ومصطفى إسماعيل، إلا أن عدم العثور على «إسماعيل» دعا «شعيشع» لاختبار «الشعشاعي» وسافرا معًا إلى هناك. وفور وصول «مطار بغداد» فاجأ المسئولون العراقيون الشيخين بسؤالهما: «وين الشيخ مصطفى إسماعيل؟»، فرد عليهم «شعيشع»: «غير موجود بالقاهرة، ولم نعرف مكانه، وكان الوقت ضيقا فأحضرت معى فضيلة الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، وهو أستاذنا»، الموقف أثار غضب «الشعشاعي» الذى لام «شعيشع» بقوله: «لو كنت قلت لى ونحن بالقاهرة إننى لست مطلوبا بالاسم من القصر ماكنتش وافقت أبدا، لكنى سأعود إلى القاهرة الآن». ورغم إصرار «الشعشاعي» على العودة إلى القاهرة إلا أن «أبو العينين» استطاع إقناعه بالعدول عن قراره بعد اعتذار «العراقيين»، ليرتل «الشيخان» داخل ساحة العزاء بالقصر أمام جمع غفير من الملوك والرؤساء والأمراء وكبار رجال الدولة، ذلك الحفل الذى شهد كسر «ضلع» للشيخ «الشعشاعي» من فرط تزاحم العراقيين لمصافحته! وخلال العزاء حدثت «حكاية أخرى» تقول إن تلاوات القرآن الكريم فى «إذاعة بغداد» كانت مقتصرة على العراقيين فقط حتى أوائل الخمسينيات، بسبب ارتفاع أجور القراء المصريين، إلا أن الإذاعة العراقية استغلت نقل تلاوة «الشعشاعى وشعيشع»، وسجلتها سرًا دون علمهما، ورغم توقع مسئولى الإذاعة أن ذلك التصرف سيغضب «الشيخين»، كان رد «الشعشاعي» فور علمه بها: «لا ضرر من ذلك اعتبروها هدية للعراق».