ينظر الواحد منا إلى التعصب الذى يجتاح بعض مَن يحيطون به من المسلمين والمسيحيين، وانشغالهم بأسئلة من نوعية «مين ابتدا؟» أكثر من انشغالهم بأسئلة من نوعية «كيف سننتهى؟» فيسأل نفسه أين ذهبت أيام الثورة الجميلة؟ حين كان المسيحيون يصعدون إلى منابر المساجد ليخطبوا من عليها فى المصلين، لن أقول اسم المسجد لكى لا يتعرض خادمه للأذى من قبل بعض المتشددين الذين سيعتبرون ما جرى مخالفة شرعية تتناقض مع عقيدة الولاء والبراء، مع أن ذلك حدث بالفعل ليس فى مسجد واحد بل فى عشرات المساجد خلال أيام الثورة، ثورة 1919. فى مذكراته الرائعة (الأيام الحمراء) يحكى العالم الأزهرى الشيخ عبد الوهاب النجار وقائع مدهشة عن التئام صفوف المصريين، مسلمين ومسيحيين، خلال أيام ثورة 19، كانت مصر قد شهدت فتنة طائفية رهيبة فى الإسكندرية عام 1911، سالت فيها دماء كثيرة وبدا للناس أن ما انكسر لن ينصلح أبدا، هذا على الأقل ما ظنه الإنجليز الذين ظنوا أن العامل الطائفى سيساعدهم على قمع الثورة، فحرصوا على أن يصوروا للعالم أن ما يجرى ليس سوى ثورة دينية من المسلمين ضد المسيحيين، ليبرروا قمعهم لها بمعاونة بعض الأرمن الذين نزحوا إلى مصر هروبا من الاضطهاد العثمانى، وقد تعرض هؤلاء للعقاب الجماعى من المصريين، مسلمين ومسيحيين، لكن المدهش أنه عقاب لم يتجاوز الأرمن إلى غيرهم من مسيحيّى الديانة، حيث استطاع العقل الجمعى فى لحظات عصيبة أن تكون لديه قدرة مدهشة على الفرز، جنبت مصر وقوع مذابح طائفية أليمة، كان يمكن أن تجعل أيام الثورة سوداء حالكة.
تنظر الآن إلى الدور المشرِّف الذى يلعبه النشطاء السياسيون فى تفويت الفرصة على من يريدون اللعب بالورقة الطائفية لتدمير البلاد، فتتذكر أجدادهم الطلبة فى أيام ثورة 19 وهم ينتشرون فى المساجد والكنائس يخطبون ويحرضون على الثبات والاتحاد. يحكى النجار واقعة رائعة تثبت أن ما قدمه الراحل حسن الإمام فى أفلامه لم يكن من نسج خياله، بل كان صورة أقل بكثير من الواقع. الواقعة حدثت يوم جمعة أعقبت مجزرة قام بها الإنجليز، حيث ذهب فريق من طلبة الأزهر للخطابة فى كنيسة حارة الروم بالحمزاوى، ووصل الخبر إلى السلطات التى جاءت وأمرت القسيس بإغلاق باب الكلام، فامتثل للأمر، فانتفض شاب مسيحى ليهاجمه قائلا له: كيف تطلب منا السكوت؟ فقال: هذا بيتى أمنع منه من شئت. فقال له الشاب: اخرس هذا بيت الله، أليس عيبا أن يفتح لنا المسلمون مساجدهم، ويبيحون منابرهم نخطب عليها ونقول ما شئنا مما فيه المصلحة وأنت تمنعنا فى كنيستك وهى بيت الله؟ ونال القسيس من التأنيب والتوبيخ من أبناء طائفته ما جعله نادما، واستمر الشباب فى تجمعهم حتى انتهى، وتواعد الجميع على اللقاء بعد العصر بمسجد ابن طولون فى حشد هائل خطب فيهم العديدون، على رأسهم القمص سرجيوس الذى يذكره النجار فى أكثر من موضع هو وخطيب مسيحى آخر اسمه راغب أفندى إسكندر. يقول النجار عن سرجيوس «فى خطابته خفيف الروح جذاب يميل إلى الولع بإيراد النكات الأدبية وكل ما من شأنه أن يلفت الأبصار ويسترعى الأسماع». المؤثر أن قسيس كنيسة حارة الروم جاء فى نفس اليوم معتذرا عما بدر منه معلنا أن كنيسته مفتوحة الأبواب لإلقاء الخطابات وقال إنه دُعىَ إلى قسم الدرب الأحمر وطلبوا منه الإدلاء بمعلومات عن الاجتماع الذى جرى عنده فلم يعطهم «عُقادا نافعا».
فى موضع آخر يحكى النجار عن خطبة رائعة ألقاها سرجيوس على المصريين فى ميدان الأوبرا فى عز الثورة استهلها بأن هتف فى الحاضرين قائلا «هل سمعتم؟» مكررا الجملة حتى استحوذ على مسامع الناس، ثم بدأ يخطب «هل سمعتم فى أجيالكم أو فى محاكمكم الشرعية أو أخبركم علماؤكم أن قسيسا قبطيا مسيحيا يعقد عقد فتاة مسلمة قبطية تعتقد الإسلام وتدين به على فتى مسلم يدين بالإسلام؟»، فقال له الجمع لا، فقال «أنا فعلت ذلك أمس»، فقالوا: وكيف ذلك، فقال «مررت بفتاة قبطية الأصل مسلمة هيفاء القد، بارزة النهد كحلاء نحيلة الخصر وردية الخدين فتانة المحاسن قد تعلق بها فتى غربى سكسونى وحشى الطباع خشن الجانب يقول: هذه زوجتى لا أفارقها، وهى تقول: لا أتزوجك ولا أحبك، هوّ الزواج بالزور يا مسلمين؟ فاقتربت منه وقلت له: يا فتى أنت أقمت بين القوم سبعا وثلاثين سنة ولا تعرف عاداتهم وطباعهم، فإذا كانت الفتاة لا تحب الاقتران بك فلماذا لا تتركها، فقال: زوجتى ولا أتركها ولا تفلت من يدى، فلما لم أجد بيده عقد زواج صحيحا بالرضا والاختيار حكمت بطلاقها منه، أما الفتاة فهى مصر وأما الفتى فالدولة الإنجليزية. وإذا بفتى معتدل القوام جميل الصورة بهى الطلعة، فالتفتُّ إليه فإذا معه سعد زغلول وأصحابه ورشدى وعدلى وثروت فسألتهم: أتعرفون الفتى؟ فقالوا: نعم، هذا الدكتور استقلال، فسألت الفتاة: هل تحبين هذا وترغبين فى زواجه، فقالت: نعم، ولا أميل إلى سواه، فعقدت له عليها بسم الله الرحمن الرحيم عقدا صحيحا شرعيا لا اعتراض للمحكمة الشرعية عليه ولم أنس أنى قسيس مسيحى فعقدت لهما عقدا مسيحيا، عقدا مباركا وأملاكا مباركا أبديا دائما، وبذلك صارت العروس للعريس والجرى للمتاعيس، ثم قالت الفتاة: إننى أخشى أن يهجرنى هذا الفتى ولا يميل إلىّ، فعملت لها تحويطة وعلّقت عليها تميمة من كتابنا المقدس، وذلك أن القديس بولس مر بفتاة فيها شيطان، فخاف الشيطان من الرسول بولس، وقال له: أيها القديس إنك مبارك من الله، وصار يتملقه بأنواع التملقات، فالتفت إليه بولس وقال: اخرج منها اخرج منها» وصار سرجيوس يقول اخرج منها، والناس من خلفه، مسلمين ومسيحيين، يهتفون «اخرج منها». ثم يحكى النجار عن اتفاق الأقباط على أن لا يُظهِروا فرحا أو سرورا بعيدهم الذى وافق يوم 20 أبريل فى عز اشتعال الثورة، مكتفين بإقامة طقوس العيد داخل كنائسهم التى توافدت عليها وفود المسلمين وتحولت الكنائس إلى مكان للخطب الوطنية. بعدها بثلاثة أيام نشرت جريدة «الأفكار» قصيدة لمحمد أفندى الهراوى يقول فيها «حَىِّ الكنائس عن مساجد أحمد.. وانشر أحاديث الإخاء ورَدِّدِ.. وعن العمائم أدِّ خير تحيةٍ.. لذوى القلانس والرداء الأسود.. لا فرق بين كنائس ومساجد.. فكلاهما لله بيت تعبد». فى يوم 30 مايو حاول الإنجليز إفساد هذه الروح الوطنية الرائعة بأن نشروا صورة زنكوغرافية لخطاب يوقع بين المسلمين والأقباط نسبته إلى أحد كبار الموظفين الذى يتجنب النجار ذكر ديانته لكى لا يُوقِع الفُرقة قائلا «إذا صح أن هذا الخطاب له، فقد دل على أنه أنذل وأخس وألأم رجل وُجد بين المسلمين والمسيحيين وأنه جدير بأن يُنبَذ من الفريقين ويُلعَن فى محاريب المعابد عند كل من الطائفتين»، لكن الخطاب لم يأت بأى مفعول بفضل وجود شخصيات رائعة مثل النجار ومثل سرجيوس الذى لم يجد الإنجليز بدا سوى اعتقاله ونفيه إلى رفح ليظل منفيا فيها مدة تقارب الثمانين يوما.
لن أواصل تقليب مواجعك بمزيد من التفاصيل التى ستذكرك كيف كنا وكيف أصبحنا، فقط سأختم لك بخبر يتوقف عنده النجار متأملا، حين حدث فى يوم 9 يونيو أن اقترح محام سكندرى اسمه محمد البشبيشى إقامة صلاة جامعة فى المساجد والكنائس فى الساعة العاشرة من مساء يوم الأربعاء الموافق يوم 13 رمضان المبارك يحصل فيه دعاء بالخير للأمة، واقترح آخرون أن يتم وضع دعاء خاص لهذه الصلاة يرتله المسلمون فى مساجدهم والأقباط فى كنائسهم. بذمتك هل يمكن أن يحدث ذلك اليوم؟، أترك الإجابة لك وأكتفى بمزيج متجانس من الحسرة والأمل.