هذه الجرعة المركزة والسريعة من الاصلاحات الاقتصادية التي تتوالي هذه الايام لابد وأن يكون لها سلسلة من ردود الافعال ومن الطبيعي أن تلقي قدرا من المقاومة لأسباب مختلفة بعضها ينطلق من اختلاف الرؤي وهذا لا غبار عليه أو الأخطر يدافع عن مصالح ومكاسب ومسالك أكثرها غير مشروع تكونت وتراكمت عبر سنوات طويلة امتلكت فيها البيرقراطية أسرار ومفاتيح التعامل مع قوانين الجمارك والضرائب وثغراتها، وكان لها دورها المشهود في دراما العمل المصرفي ونتائجه التي لا تقف فقط عند أزمة الديون المتعثرة إن هم التحديات تأتي من البيروقراطية المسيطرة علي القطاع العام لأربعة عقود من الزمان قاومت فيها بقوة وثبات أية محاولات للاصلاح وعرقلت تنفيذ برامج الخصخصة والتحديث طوال السنوات العشر الماضية مستعينة بشعارات براقة ومؤثرة بهدف الابقاء علي أوضاع تحقق استفادة محدودة لقلة رغم آثارها السلبية علي الاقتصاد وعلي الناس. ومن هنا فإن هذا التيار الاصلاحي الذي بدا يعبر عن نفسه بقوة في سلسلة القرارات والافكار الاقتصادية التي ظهرت خلال الاسبوين الماضيين لابد وأن يدرك ويعترف أولا بوجود هذه المقاومة وإن كانت غير مشروعة كما لابد وأن يفرق في المعاملة بين الذين يعترضون أو يتحفظون لأسباب موضوعية وتنطلق من فكر مختلف وهؤلاء الذين يقاومون هذا النمط من الاصلاح دفاعا عن مصالح ضيقة حيث إن لكل حالة أسلوب المواجهة الذي تستحقه. وهذه المنظومة الاقتصادية التي تتشكل الآن بمحاورها المالية والنقدية والاستثمارية رغم جاذبيتها ومحاكاتها للنماذج الاصلاحية التي طبقت ونجحت في مناطق ودول أخري إلا أنها بحجمها ومداها تعد جريئة بالنسبة للاقتصاد الوطني الذي سيطر عليه الفكر لاقتصادي المحافظ سواء في الحقبة الاشتراكية أو ما تلاها عندما تحول إلي الانفتاح علي العالم حيث ظلت السيطرة للمحافظين في وضع وتنفيذ السياسات المالية والنقدية وحتي النشاط الاستثماري الذي هو بطبيعته يتبني الافكار الجريئة اسند الاشراف عليه وتنفيذه إلي مسئولين وموظفين غلبوا الاعتبارات البيروقراطية في تعاملهم مع المستثمرين علي مبادئ المساندة والتشجيع التي تحتاجها الاستثمارات وربما هذا ما يفسر ضآلة حجم الاستثمارات الأجنبية التي لم تزد علي 400 مليون دولار العام الماضي رغم أننا نملك واحدا من أكثر قوانين حوافز وتشجيع الاستثمارات في العالم من حيث جوائزه الذي يمنحها للمستثمرين. إن التحدي الكبير الراهن هو أن الاقتصاد الوطني أصبح الآن يدار بواسطة مفاهيم مختلفة عما اعتدناه لعقود طويلة من الزمان حيث يتحول من مفهوم الجباية في السياسات الضريبية والجمركية إلي تبني سياسات أخري تستهدف تنشيط السوق بهدف التنمية بدلا من تعظيم الموارد السيادية لتمويل النفقات العامة المرتفعة ومن تجاهل أثر ضعف الجهاز المصرفي في تعويق السياسة النقدية إلي تصليب البنوك وتقويتها حتي تصبح قادرة علي القيام بعملها بكفاءة في ضخ الأموال وتنشيط الانتاج، ومن تحويل الكيانات الانتاجية المملوكة للدولة من عبء علي الميزانية العامة إلي سند لها بتحرير القطاع العام والهيئات الاقتصادية. وهذه كلها أفكار طيبة ولكنها تصطدم بأسئلة مشروعة حول التكلفة الاجتماعية المنتظرة علي الأقل علي المدي القصير كفقدان الوظائف علي سبيل المثال وأسئلة أخري خاصة بكيفية مواجهة الزيادة المتوقعة في عجز الميزانية بسبب التيسيرات المالية الجديدة وأخري تتعلق بالتعامل مع سعر صرف الجنيه وآثارها عند ازدياد الطلب علي الاستيراد إذا ما دخل الاقتصاد في موجة مرجوة من الانتعاش. هذه الأسئلة وغيرها سوف تملأ السوق خلال الأيام القادمة البعض سيرددها بحسن نية وضمير نقي، وآخرون سيتلاعبون بهذه التحديات لاجهاض محاولات الاصلاح الراهنة وربما يضيفون عليها أزمة تفاقم الدين المحلي واتجاه الديون الخارجية نحو موجة ارتفاع جديدة بعد أن اقتربت من 30 مليار دولار إن الحكومة والادارة الاقتصادية مطالبة بإقناع الناس بجدوي السياسات الاصلاحية بالتخلي عن الفكر الاعلامي القديم الذي يشير فقط إلي الجوانب الايجابية ويتجاهل التطرق إلي المشكلات القائمة والآثار الجانبية للسياسات الجديدة لأن هناك من سيروج لها ويبالغ فيها ولا سبيل في هذه المواجهة بين الاصلاحيين من جانب والبيروقراطيين والمحافظين في الجانب لآخر إلا الالتزام الصارم بمبدأ الشفافية والافصاح وعرض الحقائق وعلي رأسها الفترة الزمنية التي ستستغرقها عمليات الاصلاح حتي نجني جوائزه وخطة الحكومة للتخفيف من آثارها علي الناس وبرغم صعوبة الأمر إلا أنه يظل الجانب الاسهل في القضية الاصلاحية الاصعب أن هذا الفكر الاصلاحي مطلوب أن ينفذه جهاز حكومي تعشعش فيه البيروقراطية الموروثة وينتشر في نسيجه مريدو المدرسة الاقتصادية المحافظة بتعقيداتها وتحفظاتها هذه هي المشكلة الحقيقية.. وكان الله في عون الجميع.