من أول لحظة بدت بوادر الصدام.. تدفق اكثر من ربع مليون ديموقراطي علي مدينة نيويورك وهدفهم ان يفسدوا فرحة الجمهوريين بمؤتمرهم العام لترشيح جورج بوش فترة رئاسية ثانية.. وفي شوارع عاصمة المال والاعمال، وحديقتها المترامية "سنترال بارك"، تزاحمت اكتاف انصار الحمار - رمز الديموقراطيين الانتخابي - الذين يطالبون بإسقاط بوش، مع انصار الفيل، رمز الجمهوريين الذين يدعمون بوش.. ومن الاحتكاك تولد الشرر..! زاد من احتمالات الصدام بين الجانبين المتنافسين، ميل مايكل بلومبيرج عمدة نيويورك - وهو جمهوري متعصب! - الي دعم حزبه ومرشحه، وتقييد تحرك الديمقراطيين في المدينة بدعوي الامن.. بينما يناصر اغلبية اهل نيويورك - 8 ملايين - الحزب الديمقراطي ومرشحه السناتور جون كيري.. وربما لهذا السبب، لم يجد الجمهوريون في استقبالهم بالمدينة كلها غير 4 أفيال حبيسة وراء قضبان حديقة برونكس للحيوان!! لم يخف رموز نيويورك مواقفهم العدائية تجاه الحزب الجمهوري ومرشحه ومؤتمره الذي داهم المدينة كضيف ثقيل.. جوناثان فرانزان مؤلف كتاب الإصلاح (The Correction) يكشف عن مشاعره: "عندي كراهية فطرية - antipathy - تجاه إدارة بوش.. والرئيس بوش يقدر نيويورك فقط لحصيلتها الفلكية من الضرائب الدولارية، ولا يزورها إلا لجمع المال او ابتزاز التأييد"! كيم هاستريتر، رئيسة تحرير بيبر ماجازين: "هذا المؤتمر هبط علينا كطبق طائر حط فجأة في حديقة ماديسون سكوير.. ونزل منه غزاة، كلهم أغراب - aliens"! روزي بيريز محامية من بروكلين: "أنا لا أكن عاطفة مريضة تجاه الحزب الجمهوري.. لكني لا استطيع ابتلاع مرشحهم للرئاسة، أو احاطته بأي تقدير"! رغم كل هذه المشاعر المعادية استطاعت لجنة الضيافة بنيويورك ان تجمع 64 مليون دولار لتغطية نفقات مؤتمر الحزب الجمهوري، علي مدار أيام انعقاده الاربعة بدءا من الاثنين الماضي.. الغريب انهم عقدوا المؤتمر في مقر يحمل اسم "معبد الدندر".. نسبة الي المعبد المصري الذي بناه الفراعنة علي نيل الأقصر 15 سنة قبل الميلاد.. والذي حملت اسمه سفينة نهرية غرقت في النيل، خمسينيات القرن الماضي، مخلفة عشرات الضحايا.. وعرفت مأساتها باسم "كارثة دندرة"! شيء يخاطب العقول! خطاب بوش في المؤتمر لم يكن أهم أحداثه.. ولا إعلان برنامج الحزب الجمهوري (Platform) الذي التزم بمساندة اسرائيل ضد عودة اللاجئين الفلسطينيين، وضد الانسحاب الي حدود يونية 1967.. الامر الذي سوف يكلف بوش حرمانا تاما من اصوات العرب والمسلمين.. الحدث الاهم حققته لجنة جمع التبرعات لحملة بوش.. جمعت مبلغا من 3 أرقام من عالم المال والاعمال في نيويورك.. وكانت قد راكمت في يوليو الماضي 240 مليون دولار! يجمع خبراء الانتخابات الرئاسية علي ان مؤتمر الحزب الجمهوري في نيويورك سوف يعطي بوش قوة دفع محدودة للغاية.. وفي قياس رأي عام اجرته صحيفة لوس انجيليس تايمز اخيرا تقدم بوش ب 3 نقاط علي منافسه جون كيري.. وكان كيري يفوقه قبل اسابيع بنقطتين فقط! وهي نتيجة مرضية بالقياس الي ما حققه بوش الاب في انتخابات 1992.. عندما كان، في مثل هذا التوقيت يمسك بذيل كلينتون علي بعد 21 نقطة! ما هي استراتيجية جورج بوش في الايام ال 60 المقبلة، قبل صباح الثلاثاء 2 نوفمبر.. نهار الانتخاب؟! رجال حملته الانتخابية يفكرون: سوف يتجه الرئيس مباشرة الي الناخبين بمقترحات سياسية مفصلة، يغطي تنفيذها السنوات ال 4 المقبلة.. شيء يخاطب العقول، ويلقي القبول.. ويتجنب خطأ جون كيري في مؤتمر بوسطن عندما ركز كثيرا في خطابه علي .. سيرته الذاتية! يؤكد ذلك شارلي بلاك، مستشار حملة بوش الانتخابية: "سوف ينقل حملته الي مرحلة جديدة قوامها خطط محددة للمستقبل.. ليثبت لناخبيه انه تحرر من قيود مشاكل العراق والتخفيضات الضريبية"! علي اليد الاخري يري الديموقراطيون ان أيا كانت اجندة بوش الجديدة، فانها لن تعفيه من تراكم خطاياه السياسية علي امتداد السنوات الأربع الماضية! عقدة بوش الانتخابية! من أين تجيء أفكار بوش الاستراتيجية.. وتنبع؟ من نادي الافطار (BrekFast Club).. ومقره مسكن كارل روث المستشار السياسي للبيت الأبيض، في شمال غرب العاصمة واشنطن.. هناك يجتمع مع حلقة ضيقة من المستشارين، في اجازات نهاية الاسبوع، ومع اطباق البيض ولحم الخنزير التي برع في اعدادها روف نفسه، يناقشون مدي تقدم الحملة الانتخابية بالقياس الي الخطة الرئيسية (Master Plan) التي تم وضعها قبل 18 شهرا! وفي اجتماعات نادي الافطار البالغة السرية تتم مناقشة جداول الهجوم علي المنافس الديموقراطي جون كيري، وصياغة خطب بوش، ومضامين حملات التليفزيون الاعلانية المقبلة.. الي غيره! ووراء بوش الابن عقدة انتخابية تطارده.. هي عقدة ابيه الذي لم يستغرق في شئون حملته الانتخابية الا متأخرا، ولم يكن مولعا بالقتال (Cowbative)، حتي لقي امام كلينتون هزيمة منكرة.. لهذا تجده معنيا بكل التفاصيل: لغة مخاطبة الناخب وحثه علي الذهاب الي الصندوق نهار الانتخاب.. تمويل الحملة.. اعلانات التليفزيون.. وكثيرا ما يتصل بمستشاره كارل روف في السادسة صباحا يحاوره حول آخر التطورات لكل شيء.. من احدث قياسات الرأي العام، الي آخر ما قاله جون كيري مساء البارحة! انه يعتبر حملته الانتخابية معبده ومعبوده، حتي ليجور اهتمامه بها احيانا علي حيز اهتمامه بممارسة مهام منصبه الرئاسي! احد مساعديه يكشف: "كثيرا ما يقرأ الرئيس اخبار الصباح.. فجأة يجأر بصوت هستيري: اضربوه.. علينا أن نرد الصاع صاعين"! وأسرار حملة بوش الانتخابية تدار في أماكن ثلاثة: البيت الابيض.. مقر "نادي الافطار" في مسكن المستشار كارل روث. اما مقر رئاسة الحملة فيشغل مبني مجهول العنوان في ضاحية آرلنجتون بولاية فيرجينيا المتاخمة للعاصمة واشنطن.. تحت إدارة مدير حملته كين ميلمان!! ومن السمات العجيبة لحملة بوش انها تدار في حدود مركزه لحد التضييق (insular).. ويلاحظ مستشارو الرئيس، ومسئولو الحزب الجمهوري ان الرئيس نادرا ما يسمح بالنقد، او بالتحول عن نهر الخطة الرئيسية للحملة.. الامر الذي يجعل الجميع يبتلعون هجمات جون كيري الجارحة.. علي مضض وألم!