كانت مذبحة رفح الإرهابية ضد الجنود المصريين في شهر أغسطس الماضي واحدة من نقاط الذروة في الموجة الإرهابية التي تجتاح سيناء في الشهور الأخيرة، والتي اقتضت بالضرورة اتخاذ اجراءات حازمة لحماية أراضينا وسيادتنا وأرواح أبنائنا العسكريين والمدنيين في منطقة الحدود الشرقية. وكشفت المذبحة والأحداث التي تلتها عن إساءة استغلال تجاوزت كل حد يمكن قبوله للتسهيلات والمساعدات التي قدمتها مصر لقطاع غزة بعد ثورة 25 يناير سعيا إلي تخفيف الحصار الإسرائيلي المفروض علي أشقائنا الفلسطينيين في القطاع ووصلت إساءة الاستغلال هذه إلي حد استباحة الأراضي المصرية وتهديد الأمن القومي المصري من جانب الجماعات الإرهاربية المتطرفة دينيا، والتي تتحرك بحرية تامة بين سيناء وقطاع غزة عبر الأنفاق دون ردع أو اكتراث من جانب حكومة حماس وأجهزتها الأمنية.. علما بأن حماس تمارس ضبطا صارما علي أي نشاط لهذه المنظمات ضد إسرائيل انطلاقا من أراضي غزة!! وكان المتصور خاصة بعد مذبحة رفح أن تدرك حماس خطورة هذه المنظمات الإرهابية وأنشطتها علي الأمن القومي المصري وأن تبذل كل جهد ممكن لتقييد حركتها لاسيما وأن الشقيقة الكبري لحماس (نعني جماعة الإخوان المسلمين) أصبحت في السلطة الآن، وأصبح إسماعيل هنية وغيره من زعماء حماس أصبحوا يلقون كل حفاوة من الدكتور محمد مرسي ورفاقه سواء في رئاسة الجمهورية وأجهزة الدولة الأمنية السيادية، أو في قيادة الإخوان المسلمين.. غير أن شيئا من هذا لم يحدث.. بل ازدات الأمور سوءا.. وبالتالي كان لابد أن تتخد القوات المسلحة وأجهزة الأمن المصرية اجراءات حازمة لضبط الحدود، بما في ذلك هدم عدد كبير من الانفاق (وليس كلها).. وكرد علي هذه الاجراءات البديهية تمت وإزالة صور مرسي من علي جدران غزة، وسط أحاديث عن إعادة حصار القطاع ومعاناة الفلسطينيين..إلخ.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: من المسئول عن معاناة غزة.. هل هم الإرهابيون وتغاضي حماس عنهم الذي يصل إلي حد التواطؤ.. أم هو الجانب المصري الذي يتخذ الاجراءات الأمنية البديهية الضرورية لضبط حدوده وحماية أمنه القومي؟ وسؤال ثان للذين يرفعون لافتات الشكر لقطر أو غيرها: هل هناك طريق لوصول أية مساعدات أيا كان مصدرها إلي غزة غير الحدود المصرية؟ وهل المناكفات والمكايدات هي السبيل لمواجهة الموقف الخطير الناشئ في سيناء والمخاطر التي تهدد غزة.. أم العمل الجاد والمسئول ضد الجماعات الإرهابية المتهوسة التي تصور لها خيالاتها المريضة أنها ستدمر إسرائيل وتحرر فلسطين عبر سيناء.. ومن خلال عملياتها النوعية "التافهة"؟! وبالطبع تبقي الحقيقة الأكيدة أن لدي المصريين والفلسطينيين مصلحة مشتركة في مواجهة عدو تاريخي مشترك.. وأن الشعب المصري بذل دماء عشرات الآلاف من أبنائه في معارك هذه المواجهة.. وكان دائما أكبر داعم للقضية الفلسطينية، والدم طبعا لا يمكن مقارنته بالدولارات!! قطاع غزة ثائر غضبان، فالحصار الذي فرح الغزيون أنفسهم بانزياحه، مازال جاثما علي صدورهم التي حطمتها أثقال الفقر والمعاناة والمرض وبعد أن دب الأمل في وجدانهم من جديد بأن ثمة انفراجة تلوح في الأفق لكسر هذا الحصار الظالم عليهم، عادت خيبة الأمل لتتصدر المشهد بعد قرار الحكومة المصرية بتدمير الانفاق الحدودية التي هي شريان حياة بنسبة للغزيين. لقد ترجم رد الفعل الغاضب لسكان قطاع غزة باستبدال صورة تجمع الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس الحكومة المقالة في قطاع غزة اسماعيل هنية، كانت قد التقطت اثناء لقائهما في القاهرة بعد فوز مرسي في الانتخابات، ثم تعليقها قبل عدة اشهر في منطقة مركزية في مدينة غزة، فاستبدلت بها لافتة ضخمة كتب عليها "شكرا قطر، أوفيتي بالعهد". ورغم أن صورة كبيرة تجمع الرئيس مرسي وهنية لا تزال معلقة في ميدان فلسطين، أكبر الميادين في غزة، إلا أن دلالة هذه الخطوة تعبر عن حجم الاستياء الحادث في غزة من الاجراءات المصرية الأخيرة المتمثلة في تدمير الأنفاق الحدودية، وبالذات بعد العملية العسكرية التي استهدفت الحدود المصرية وراح ضحيتها 16 ضابطا وجنديا مصريا، وشكلت منعطفا حادا في العلاقة بين الحكومة المصرية وحركة حماس، خاصة بعد الوعود التي منيت بها حركة حماس من جانب الرئيس محمد مرسي لحل أزمة الحصار علي قطاع غزة لكن الذي حدث أنه يتم تدمير الانفاق دون تقديم بدائل للأزمة المستعصية في قطاع غزة. إن التعبير عن هذا الغضب الشعبي إزاء الاجراءات المصرية لم يكتف بهذا القدر، بل تم ازالة كل الصور واللافتات والاعلانات في المنطقة التي كانت تعلق فيها الصورة المشتركة للرئيس مرسي وهنية قبل استبدالها بلافتة "شكرا قطر". بالنسبة لأهل غزة فإن هذا التصرف له ما يبرره، فدولة قطر شرعت قبل أيام في تنفيذ عدد كبير من مشاريع البني التحتية في القطاع تصل قيمتها إلي نحو 300 مليون دولار وضمنها اقامة مبان بالقرب من مركز المدينة الذي نصبت عنده اللافتة والتي تعبر عن شكر قطر، ناهيك عن أطنان الوقود الذي أرسلته إلي غزة عبر مصر في انتظار الموافقة المصرية لدخوله القطاع، وهي التي رعت مؤخرا اتفاق المصالحة الذي تم بين عباس ومشعل وعرف ب "اتفاق الدوحة" حتي وإن لم يتم تنفيذه علي أرض الواقع حتي الآن. وبرغم أن حكومة حماس نفت أن تكون لهذه الخطوة أي دلالة سياسية مدعية أنها لم تكن مسئولة عن وضع الصورة المشتركة لهنية ومرسي ولم تكن مسئولة عن وضع اللافتة التي تشكر دولة قطر، غير أن ما يحدث لا يمكن أن يكون بمنأي عن الحكومة ومعرفتها المسبقة، فقد كانت حركة حماس وحكومتها في غزة تعول كثيرا علي العلاقة المشتركة بين الرئيس الاخواني محمد مرسي وحركة حماس الاخوانية في فك الحصار عن قطاع غزة بأشكاله المختلفة، وفتح معبر رفح لحركة المسافرين والتجارة بشكل دائم دون قيد أو شرط فمعبر رفح هو شريان الحياة والبوابة الوحيدة بالنسبة لسكان قطاع غزة علي العالم الخارجي، فضلا عن اقامة منطقة تجارة حرة طالما دعت إليها حماس وطالبت بها حكومتها في غزة رسميا من الجانب المصري بعد جولات عديدة لقادة الحركة ومسئوليها إلي القاهرة ولقاءات متعددة مع الرئيس مرسي ورئيس وزرائه هشام قنديل ومرشد الاخوان المسلمين الدكتور محمد بديع. إن خيبة الأمل التي استشعرتها حكومة حماس بعد ماراثون اللقاءات بالرئيس مرسي والمسئولين المصريين وتوجت بقرار تدمير الانفاق، وكان تدمير الانفاق هو العنوان الوحيد لهذه الاتفاقات دون طرح البديل أو تنفيذ الوعود التي قطعها الرئيس مرسي علي نفسه بفك الحصار وتخفيف المعاناة عن سكان قطاع غزة، كان مسوغا طبيعيا لسكان القطاع لم تعترض عليه الحكومة المقالة في غزة، بل غضت عنه الطرف. شروع القوات المصرية في تدمير الانفاق التي يتم عبرها تهريب معظم المواد الأساسية للقطاع هو سلاح ذو حدين فهو من ناحية يمنع تهريب السلاح والمخدرات وتصدير الإرهاب إلي سيناء ويسهم في تأمين الحدود المصرية التي أصبحت مستباحة ووكرا للإرهابيين وتجار السلاح والمخدرات، فضلا عن الضغوط الشعبية والسياسية المصرية ضد توجهات الرئيس مرسي تجاه حركة حماس وهذا الانفتاح غير المبرر عليها وكأنها أصبحت هي عنوان الفلسطينيين في غزة، بمعزل عن السلطة الفلسطينية الشرعية، ذلك في الوقت الذي تحتاج فيه مصر إلي تضافر الجهود وإعطاء المشكلات الداخلية أولوية الاهتمام. ومن ناحية أخري فإن تدمير الانفاق دون طرح البديل يعيد قطاع غزة إلي مرحلة الحصار الأولي إبان أسر الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط في عملية عسكرية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2006 فرض علي أثرها حصار ظالم علي قطاع غزة، طال جميع مناحي الحياة ولا يزال مستمرا حتي الآن.