يوما ما في تاريخ المحروسة كان عبدالحليم حافظ يغني في أحد أعياد ثورة يوليو من كلمات صلاح جاهين: "وتماثيل رخام ع الترعة واوبرا" كان جاهين "يتصور" وكان العندليب "يشدو" والناس تلتهب اكفها بالتصفيق لقد كانت الصورة باهرة فئة، واحدة من ناس مصر لم تكن تصفق ولا تترنم بالكلمات وهي الفلاحون الذين يعيشون علي الترعة، كانوا يدركون انه "كلام أغاني" كانوا يعلمون أن أهل البندر في واد والفلاح في واد آخر، وكان يعذبهم أن يتحدث الآخرون بالنيابة عنهم، وحين غني موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب "محلاها عيشة الفلاح"، استكانوا إلي هذا المعني وكأنهم يحمدون الله علي العيشة، ولكن "واقع" الفلاحين في مصر كان سيئا وظلوا مهمشين سنوات طويلة طويلة، وفي زمن ما كانت للفلاحين "أمانة" في المؤسسات السياسية وكان يتولي أمانتها "أفندية" وازداد بؤس الفلاح وظل فترات طويلة كائنا منسيا، وكانت كل محاولات الحكومات للنهوض بالفلاح المصري مجرد "شو إعلامي" لا أكثر، وعندما تهاجمه السيول كانت تعلن في الصحف عن بيوت بديلة ثم يستولي المحاسيب علي الشقق. لم يكن الفلاح في مصر بحاجة إلي "تماثيل رخام علي الترعة وأوبرا" كان يحتاج إلي مياه نظيفة للشرب وليس مياه الطلبات كان يحتاج إلي مستشفي مزود بأدوية تعالجه وتعالج أسرته، كان يريد أن يتعامل مع بنك الائتمان الزراعي بآدمية ويحصل علي السماد دون واسطة، كان يحلم ان تشتري منه الحكومة المحصول بسعر معقول، ورغم أنه أعطي صوته لنائب البرلمان فقد أدرك طوال السنين أن النائب المحترم يعمل لحسابه وليس لحساب الفلاحين، لم يكن فلاح مصر في حاجة إلي تماثيل رخام علي الترعة وأوبرا بقدر ما كان في حاجة إلي مقبرة قريبة يدفن فيها موتاه دون أن يعبر شارعا ترمح فيه السيارات وغالبا ما يعود بكارثة، كان الفلاح المصري التعيس يتساءل: هل صدق كلام محمد عبدالوهاب "محلاها عيشة الفلاح"؟! حدث مؤخرا منذ أسبوعين لقاء تليفزيونية بيني وبين د. أيمن أبوحديد وزير الزراعة وتكلمنا عن تهميش الفلاح ولكن "أبوحديد" كان يري أن هذا الميراث الطويل من الإهمال لن يتغير بين يوم وليلة، وفهمت أن الحل العاجل هو أن تشتري الحكومة القمح من الفلاح بسعر معقول يختلف عما كان وانها بذلك تشجع الفلاح علي زراعة القمح وليس محصولا آخر يدر عليه فلوسا أكثر، وربما يشعر بأن هناك اهتماما برغيف العيش الذي يمثل تحديا حقيقيا وأن القمح المحصول أساسي ورئيسي يجب أن يملأ الغيطان، الأمر لا يقتصر علي ذلك فقط، بل يحتاج الفلاح إلي تعاون زراعي يتمثل في جمعيات تخدم الفلاح بحق. إن هناك فارقا حضاريا كبيرا بين المدن والقري، هذا الفارق جعل الفلاح يهاجر إلي المدينة ويترك أرضه، هذه هي نقطة البداية في إصلاح حال الفلاح وهي الا تكون القرية معدمة والمدينة تتمتع بكل المميزات ان زيارات المحافظين للقري في مصر تحدث عند زيارة مسئول كبير أو عند حدوث جريمة تتناولها أجهزة الإعلام وفيما عدا ذلك فالدنيا ماشية والفالح يسهر ليري أفلام الدش ويتحدث علي حياته، حتي لقد أصبح طول الحرمان جزءا من شخصيته وتكيف مع هذا الوضع. لعل ثورة يناير ،2011 تنصف فلاح مصر بخطة طويلة الأجل لرسم هيكلها خبراء وليسوا هواة صحيح لقد تخلص الفلاح من الإقطاع ولكن أحواله مازالت مزرية، وجاء وقت إزاحة المساحيق من الوجوه والكشف عن الأعماق، والأمل كبير في ثورة قامت من أجل العدالة، وفلاح مصر في مقدمة اهتمامها.