في تقديري أنه قد آن الآوان للتعامل مع قضية الفتنة الطائفية بقدر كبير من الصراحة والوضوح وبمسئولية كاملة يتم من خلالها وضع الأمور في نصابها الصحيح بدون مواربة أو تشويه أو تجميل. لم يعد من المفيد أن ندفن رؤوسنا في الرمال كما كنا نفعل طوال عقود ماضية. ونظل بهذه الرؤوس بين الحين والآخر ثم نعود لدفنها مرة أخري ولحين إشعار آخر. لم يعد من المفيد أيضا أن نكتفي برفع شعارات الوحدة الوطنية واستعراض تاريخها بفخر واعتزاز كلما داهمتنا أحداث الفتنة في الوقت الذي يدرك خطورتهما من هم بعيدون عنا ويتعاملون معها بالدراسة والتحليل وبجدية تفوق جديتنا!! كذلك لم يعد يناسبا الاكتفاء بالقبلات والأحضان المتبادلة بين رجال السياسة والمسئولين التنفيذيين ورجال الدين من الطرفين عند حدوث أزمة أو حدث تشيب له الولدان! ومن المفارقات الغريبة والصحيحة أن كانت تلك المفارقات لم تعد غريبة ولا عجيبة في مجتمعنا إن الجميع يعرف مدي خطورة أحداث الفتنة الطائفية ونتائجها وانعكاساتها علي سلامة الآمن القومي للمجتمع ومع ذلك يتم التعامل معها بهذا المستوي غير اللائق أو غير المناسب لمستوي تلك الأحداث ودلاتها الكامنة والظاهرة. إن هذا التعامل يمكن وصفه بالتعامل المتعالي والبيروقراطي في نفس الوقت. فالتعامل من أعلي دون الغوص في أحاسيس الجماهير أو النزول إلي القاعدة الشعبية العريضة التي غالبا ما تكون هي الوقود الفعلي لأحداث ومظاهر الفتنة الطائفية هو أقرب ما يكون إلي تعامل القلة البشرية المنعزلة في حل مشاكلها مع الطبقات الأدني اجتماعيا.. كذلك يمكن وصف هذا التعامل بالبيروقراطية اذا راجعنا الاداء الحكومي والحزبي مع هذه المشكلة منذ فترات طويلة وهو أداء ذو أسلوب عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع.. تعامل يعتمد علي المسكنات وإغلاق الملفات وتصديرها من الأدني إلي الاعلي في مسار أقرب ما يكون إلي حفظ ماء الوجه للطرفين.. وعلي المتضرر من تلك الأساليب اللجوء إلي الله أو خبط دماغة في الحائط.. هذا الحائط الذي قارب علي التصدع من كثرة ما وجه إليه من ضربات الرؤوس!! ومما لا شك فيه أن هذا التعامل البيروقراطي يستمر كالتعامل الأمني مع أحداث الفتنة. وهذا التعامل الأمني كفيل جعل البيروقراطيين والمتعثرين عن الواقع الاجتماعي في مأمن ولو مؤقتا من أن تطالبهم نيران تلك الفتنة وتعكير صفو مزاجهم دون غير مدركين أن الاطفاء المؤقت لتلك النيران لا يمثل إلا مسرحية هزيلة لا يمكن أن تستمر كثيرا بعد أن ملها المجتمع ويرفض أن يكون متفرجا عليها لفترة أطول من ذلك. والمقام هنا لا يسمح بعمل دراسة لاجل المشكلة وأسبابها وتداعياتها ومع ذلك فليس بجديد التأكيد علي أن استخدام السياسيين للدين كان من أهم أسباب حدوث مظاهر الفتنة الطائفية ليس في مصر فقط ولكن في مناطق عديدة من أرجاء العالم.. وليس بجديد أن نؤكد علي أن بيع بعض المثقفين لقضية الأمن القومي لحسابات يعرفها الجميع كان أيضا من أهم تداعيات هذه الفتنة. وليس بجديد أن نؤكد دور بعض رجال الدين في تأجيج نار تلك الفتنة ولكن الجديد الذي يمكن أن يقال وربما هو أيضا ليس بجديد علي البعض إن اللعبة قد انكشفت والأوراق قد أصبحت مفضوحة للقاص والدائي وللمسلم والمسيحي. وعلي كل اللاعبين أن يعلموا ذلك وعلي المجتمع الواعي أو قل النخبة الواعية أن تستجمع كل قواها وقدراتها ليس لمواجهة سطحية من البسطاء الذين هم وقود أحداث الفتنة ولكن مع اللاعبين الأساسيين الذين يضعون مصالحهم الأنانية فوق اعتبارات الأمن الاجتماعي والقومي للوطن. والمجتمع الواعي ليس هو المجتمع الذي ينوب عن أصحاب المصالح الضيقة أو البيروقراطيون وإنما هي المجتمع يجب أن ينوب عنه المخلصون من رجال السياسة والمثقفين ورجال الدين وغيرهم من الجدير بثقة هذا المجتمع. إن المنظومة والبيروقراطية والامنية التي ظلت تتعامل مع مشكلة الفتنة الطائفية وأحداثها منظومة قد عفا عليها الزمن وأصبحت غير مناسبة في ظل ثورة المعلومات والاتصالات وتنوع مصادر الأخبار والمعرفة اللحظية للاحداث وردود الأفعال. المنظومة المطلوبة الآن هي التي يقودها المخلصون من السياسيين والمثقفين ورجال الدين وأهل الرأي البارزين بمعاونة صادقة ومخططة من رجال التربية والتعليم والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي لتنقية ثقافة المجتمع من الشوائب التي علقت به خلال العقود الاربعة الماضية.. هذه الشوائب التي ترسبت وترسخت مع الأسف الشديد وشب عليها ونشأ من خلالها جيل كامل فقد وعيه وإدراكه من خلال عمليات شحن وتعبئة مستمرة استغلت ظروفا اقتصادية ضاغطة ومسارات اجتماعية خاطئة وتنازلات متتابعة عن الهوية المصرية الاصلية وتعلقت بهويات أخري لها ثوابت دخيلة علي المجتمع المصري.. وكان نتيجة لكل ذلك ظهور جيل كامل مهزوز الثقة بوطنه ضعيف الائتمان له فاقد لملامح الشخصية المصرية التي كانت هي الأمن والامان لسلامة النسيج الوطني للمجتمع المصري بمسلميه ومسيحييه علي مر الأزمة منذ الفتح الإسلامي لمصر. ومن نافلة القول إن المنظومة المطلوبة لابد أن يحتضنها حزب قوي وحكومية واعية تعرف حجم المشكلة وتداعياتها وتوفر البيئة الحاسمة لهذه المنظومة من خلال دولة مدنية صريحة وقوية واضحة المعالم تراعي الثوابت الدينية السماوية والمشاعر الخاصة بمعتنقي تلك الديانات وتراعي القيم الأخلاقية والأعراف والتقاليد الراسخة لهم دون تفرقة ودون الالتفاف حولها. والدولة المدنية بدورها لا يمكن أن تؤدي دورها المرتقب إلا بسيادة القانون وتوفير الحد الأدني من الحريات الواجب توفيره للمواطنين في ممارسة مناسكهم الدينية وفي احترام عقائدهم وجميع حقوقهم المدنية المشروعة دون مزايدة ودون الخضوع لفزاعات وهواجس مرضية تفرغ المنظومة من أهدافها أو مضمونها وتعيدها إلي نقطة الصفر. أما عن أحزاب المعارضة التي يتهمها البعض بأنها أحزاب كرتونية فعليها أن تثبت ما ينفي هذا الاتهام وأن تحشد قوتها ووسائل إعلامها لدعم تلك المنظومة والاضافة إليها.. مراعية وجه الله والوطن بعيدا عن المزايدات والصراعات الحزبية والمعارك الانتخابية وغيرها من مجالات الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي مع الحزب الحاكم.. ولتأخذ تلك الأحزاب العبرة من الممارسات الحزبية للأحزاب التي كانت علي الساحة المصرية قبل الثورة فلم نعرف من تاريخها ما يشير من قريب أو من بعيد إلي التلاعب بورقة الدين أو بمبادئ الوحدة الوطنية التي كانت محل تقدير واحترام جميع الأحزاب بما في ذلك أيضا حركة الأخوان المسلمين نفسها.. وهي الحركة التي نشأت ومارست عملها جنبا إلي جنب مع الجمعيات المسيحية في نفس الفترة. ومن المهم أن نشير إلي دور مجتمع رجال الأعمال في المنظومة المشار إليها وهو دور أصبح مهما ومؤثرا في ضوء تنامي الدور البرلماني لرجال الأعمال وفي ضوء امتلاك العديد منهم لوسائل الإعلام المقروءة والمرئية وليس من المبالغة أن نشير إلي أن أحداث الفتنة الطائفية وتداعياتها سوف تنعكس إذا استمر الوضع علي ما هو عليه علي الاستقرار الاقتصادي والمالي وعلي سلامة الاستثمارات الخاصة برجال الأعمال وعلي فرص نمو أعمالهم وطموحاتهم المشروعة.. وهل الأمر الذي يحتم عليها أيضا أن يكونوا في طليعة المؤيدين والمتفاعلين والمساندين للمنظومة التي تؤمن سلامة المجتمع واستقراره. ونفس الرسالة أيضا يمكن توجيهها إلي الإعلاميين والفنانين والمبدعين المؤثرين في الساحة الإعلامية والفنية والأدبية.. حيث إن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع هو الضمانة الاساسية لاستمرار اضافتهم الابداعية المتنوعة في جميع المجالات بعد أن أصبحت تلك الابداعات مرتبطة ارتباطا وثيقا بمجتمع إنتاجي وعائدات اقتصادية تغطي تكاليفها التي أصبحت غير مدعمة من الدولة ناهيك عن ضرورة وجود بيئة اجتماعية غير مضطربة تتذوق وتشجع هذه الابداعات والمبدعين. وبقي أن نشير إلي الطرف الأخطر من أطراف تلك المنظومة وهي المؤسسة الدينية في الجانبين المسلم والمسيحي بكل ما يتبعهما من تنظيمات هيكلية ومساجد أو كنائس.. فغني عن البيان أن خطبة واحدة متطرفة من خلال منبر مسجد أو وعظ كنسي متطرف من خلال كنيسة قد يترتب عليها مالا يحمد عقباه من تصرفات البسطاء المضللين من الجانبين.. ولذلك فإن علي هاتين المؤسستين القيام بتنقية داخلية أيضا للشوائب التي يمكن أن تعطل مسيرة المنظومة المقترحة وأن تصعد في كوادرها البشرية من يؤمن حقيقة لا شكلا بأهمية الوحدة الوطنية وبخطورة الفتنة الطائفية.. وأن تستدعي إلي ذاكرتها تعانق الهلال مع الصليب في ثورة 1919 واندماج واختلاط الدماء المقدسة في حرب تحرير سيناء، وعلي الدولة أن تقدم للاثنين كل الدعم والمباركة في هذا التوجه. وبعد.. فإن مشكلة الفتنة الطائفية وتداعياتها هي أخطر المشاكل التي يمكن أن تؤثر سلبا علي مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر.. وعلي الحزب الحاكم وحكومته أن يشحذا لها العقول المستنيرة للتعامل معها بنفس القدر من الجدية التي يتعاملان به مع مشكل