تأسست فكرة تمصير البنوك علي يد الرائد الاقتصادي العظيم طلعت حرب حين شرع في إنشاء بنك مصر في السابع من مايو عام 1920 هادفا إلي تحويل مصر من بلد زراعي إلي دولة صناعية تعتمد علي الصناعة الوطنية، وعليه قام بتأسيس وتمويل العديد من الصناعات بدءا من الغزل والنسيج وانتهاء بصناعة السينما، ولأننا في أمس الحاجة اليوم لهذه الابداعات التي تعتمد علي الجهود الذاتية والاستغلال الأمثل لقوانا البشرية فضلا عن إدراك مكامن القوة في تنظيم العمالةوهيكلتها بها يتلاءم والبيئة المحلية كان لابد من العودة إلي أفكار طلعت حرب. بداية فلنتفق علي أن البنوك اليوم أصبحت صناعة مستقلة تنتج سلعة هي النقود وإعادة تدويرها بالزيادة أو النقصان وتهدف هذه الصناعة شأن باقي الصناعات إلي تحقيق الربح والاستغلال الأمثل للموارد البشرية المحققة للهدف، والسلعة المنتجة (النقود) تخضع لقوانين العرض والطلب مثل أي سلعة وتتحكم فيها أذواق وعادات المستهلك الدائمة التغير، وهو ما يتحقق بوضوح في ازدياد الطلب علي البطاقات الائتمانية وحالة التنافس الشرس بين البنوك علي جذب العملاء علي نفس المنتج. إذا هي صناعة أصبح فيها للدولة المصرية خبرة تخطت التسعين عاما وهي مدة توجب علي مصر أن تكون في مقدمة الدول العربية والافريقية علي الاقل في مجال الصناعة المصرفية، ولأن الحال بات بغير ذلك خاصة بعد أن تقدمت علينا دول ذات شأن حديث علي الخريطة الاقتصادية الدولية، بات من المهم إعادة تحليل أسباب تخلف هذه الصناعة عما كانت عليه بالمقارنة بعام 1933 مثلا وهو العام الذي شهد تأسيس شركة مصر للطيران ثم اعقبها العديد من الشركات العملاقة التي تحمل اسم مصر والتي استوعبت العديد من العمالة واسهمت فعلا في تحقيق هدف طلعت حرب بأن تصبح مصر دولة صناعية. التمصير هو الحل، هكذا علمنا طلعت حرب هذا المفك الرأسمالي شديد الوطنية، أما ما يحدث الآن من تطبيق أعمي للنماذج الغربية والأمريكية التي تتناقض مع طبيعة العميل أو المدخر المصري خاصة في مجالات الائتمان والإقراض والالتزام بقواعد ونظريات غربية تحت مسمي اتفاقية بازل والتي هي بالطبع غير ملزمة لبنوك أمريكا. ولكننا قررنا الهرولة وراء الالتزام بجميع المعايير والشروط الواردة بها والتي تختلف كلية عن طبيعة السوق المصرية فضلا عن عدم ملاءمتها للمدخر المصري الذي عقد العزم علي الاحتفاظ بمداخرته في هذا البنك أو ذاك أملا في فائدة ثابتة تعود عليه، ولأن طلعت باشا لم يكن أبدا رئيسا لبنك مصر الذي أنشأه، بل كان نائبا للرئيس وعضوا منتدبا يعطينا درسا في فنون الإدارة المصرفية التي يفتقدها الأغلب الآن فإن ذلك يعني أهمية دور الإدارة العليا في تسيير هذه الصناعة. سابقا كان أحد أهم أهداف الإدارة "الطلعت الحربية" هو اقتطاع جزء من أرباح البنك بهدف إنشاء شركة صناعية تنتج سلعا يحتاجها السوق المصري ويتميز فيها العامل المصري والتي اسموها الآن (ميزة تنافسية) وهو ما لم يعد موجودا الآن. إذن الإدارات البنكية تتحمل الجانب الأكبر في الوضعية الراهنة لحال الصناعة المصرفية الذي أصبح شديد التدهور والتبعية،والاعجب أن قيادات العمل المصرفي أصبحت تفتقر لعقلية العمل الرأسمالية التي تقوم علي الحفاظ علي الأسواق الوطنية أو بالأدق مودع مصري في بنك مصر بآليات وقواعد تلائم البيئة المحلية باستثمارات لأرباح لبنوك داخل مصر عبر شتي المشروعات المربحة صناعيا وزراعيا وسياحيا، وهذا ما لا نلمسه، فبدلا من تدعيم المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي حتما ستصبح كبري يوما ما يجري تمويل شركات الاستيراد للمواد الغذائية أو لعب الأطفال أو مستلزمات التكنولوجيا وما إلي ذلك. أيضا أصبحت الرؤية المصرفية المستقبلية لدي القيادات البنكية مقصورة علي مدي الاستمرار في المنصب دون احداث تطوير حقيقي في هذا البنك أو ذاك. بالطبع هذا الكلام ليس علي إطلاقه، لكنه يشمل العديد والقصد بقراءة المستقبل هو إيجاد العديد من الأوعية الادخارية والاستثمارية التي تعمل علي مزيد من جذب الأموال المحلية في صورة مدخرات وإعادة تدويرها لمقترض منشيء لصناعة ما تسهم في الدخل القومي للوطن وأعتقد أن هذا ما نفتقده الآن.