أخيراً وبعد مناقشات حادة استغرقت شهوراً طويلة أقر الكونجرس الأمريكي قانون ضبط الأسواق المالية.. ووافق مجلس الشيوخ علي القانون، بعد أن كان قد سبق لمجلس النواب الموافقة عليه. وسيصبح القانون سارياً بمجرد توقيع الرئيس الأمريكي عليه خلال أيام قليلة إذا لم يكن قد وقع عليه فعلا قبل نشر هذا المقال.. ويعتبر إقرار القانون انتصارا كبيرا لأوباما علي ديناصورات "وول ستريت" من كبار مسئولي البنوك والمؤسسات المالية الذين أدت ممارساتهم غير المسئولة وغير الأخلاقية إلي أكبر أزمة مالية واقتصادية يشهدها العالم منذ "الكساد الكبير" في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين. وبالرغم من ذلك فقد قاوموا بضراوة فكرة طرح القانون المذكور، ومارسوا ضغوطا عنيفة علي أعضاء مجلس الكونجرس لإفشال إقراره، لتظل أيديهم طليقة في ممارساتهم التي دفع ثمنها ليس الاقتصاد الأمريكي وحده، بل الاقتصاد العالمي بأسره. لذلك كان طبيعيا أن يشير أوباما، في أول تعليق له علي إقرار القانون، إلي أن هذه الخطوة تمثل انتصارا لروح المسئولية والانضباط الأخلاقي في إدارة الاقتصاد وأسواق المال.. وكان طبيعيا أن يري كثير من الخبراء والمعلقين الاقتصاديين خطوة في الاتجاه الصحيح للخروج من الأزمة الحالية، ومنع عودة الممارسات الخاطئة وغير المسئولة التي أتاحت لحفنة من مديري المؤسسات المالية والمضاربين تحقيق ثروات خيالية علي حساب الملايين من صغار المستثمرين ودافعي الضرائب في الولاياتالمتحدة والدول الصناعية المتقدمة والدول النامية علي السواء. والواقع أن ما ارتبط بمقدمات الأزمة الأخيرة من ممارسات مخادعة واحتيالية وغير شفافة، باعثها الجشع والرغبة في تحقيق الأرباح الخيالية بكل السبل، وما نتج عنها من كوارث أطاحت بثروات ومصائر ملايين المستثمرين الصغار، كما ألقت بعشرات الملايين من العمال والموظفين.. كلها أمور حملت العديد من المفكرين والممارسين في المجال الاقتصادي علي التفكير في ضرورة إعادة الاعتبار للجوانب الأخلاقية في الفكر والممارسة علي السواء، تلك الجوانب التي دهستها الحرية المطلقة للسوق.. وما أصبح يعرف ب "الرأسمالية المتوحشة" ضمن ما دهسته من قواعد العمل المصرفي والاقتصادي السليم القائم علي أسس علمية صحيحة. والواقع أن هذه القضايا الأخلاقية قد حظيت بجانب لا يستهان به من اهتمام كثير من المفكرين الاقتصاديين، وخاصة مع بروز بعض الجوانب السلبية لاقتصاد السوق.. وعلي سبيل المثال فإن الاقتصادي الإنجليزي ويكستيد أشار في مقالة شهيرة له عام 1898 إلي قضية الأخلاق في النشاط الاقتصادي وضرورة اتباع المنهج الأخلاقي لتحقيق عدالة التوزيع للدخل بين طبقات المجتمع وعدم السعي وراء تحقيق أرباح فاحشة من خلال الممارسات غير الأخلاقية سواء في المعاملات بين الأفراد الهادفة إلي تراكم الثروات أو استغلال الحاجة الإنسانية لأفراد الطبقات الفقيرة.. وانه يجب علي المؤسسات والأفراد السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية وليس تكوين الثروات الطائلة وأن مبدأ الحرية الاقتصادية الذي دعا إليه الرأسماليون الكلاسيكيون يحقق عدالة في التوزيع دون تبني السلوك الأخلاقي في المنافسة المحافظة كما اطلق عليها الاقتصادي الأمريكي جون كلارك الذي أيد نظام التعاونيات في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة. ما سبق هي مبادئ سعي إليها الاقتصاديون منذ أكثر من 100 عام وقبل توحش الرأسمالية وحدوث الكساد في عام 1929 وما تلاها، وزيادة أعداد العاطلين في بريطانيا وحالات الفقر والبؤس بين أفراد المجتمع الإنجليزي وعدم قدرة اقتصاد الدول الرأسمالية علي امتصاص الصدمات والتصويب والتصحيح التلقائي للعودة إلي التوازن طبقا لمبادئ المدرسة الكلاسيكية التي تدعو إلي الحرية الاقتصادية وعدم تدخل الدولة في آليات الأسواق، إلا أنه ما حدث كان واقعا للرأسمالية غير الأخلاقية التي أدت إلي زيادة أعداد الطبقات الفقيرة وعدم القدرة علي إيجاد وظائف جديدة وانخفاض معدلات التشغيل للاقتصاد مما أدي إلي الركود والكساد في اقتصادات الدول الرأسمالية.. حتي ظهرت الأفكار الكينزية والتي كانت طوق النجاة للعالم الرأسمالي في تنفيذ أفكار الاقتصادي الأشهر جون مانر كينز التي تهدف إلي إيجاد الطلب الفعال لتنشيط الاستثمار ورفع مستويات التشغيل من خلال التدخل الحكومي لتدعيم الإنفاق الاستثماري لتحفيز الأسواق. ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه مرة أخري فبعد 80 عاما حدثت أسوأ أزمة مالية يشهدها العالم حيث في أواخر عام 2008 انهارت جميع أسواق المالية في العالم لتحدث هزات اقتصادية عنيفة في النظام الرأسمالي وبسبب العدوي