عندما نتحدث عن الأخلاق، فإننا لا نعني شيئاً جيداً أو سيئاً ولكن يقصد بها منظومة من القيم والمبادئ والسلوكيات التي تتشكل عبر فترات طويلة من حياة أجيال عديدة في مجتمع معين.. والأخلاق تتغير مع تغير البشر فليست هناك أخلاق جيدة وحميدة صالحة لكل الشعوب أو لكل الأزمان لكن هناك أخلاقاً جيدة، وأخري سيئة في زمن ما قد تبدو جيدة في زمن آخر.. لذلك فإن تعبير فلان عنده أخلاق التي تقال مدحا في شخص يعجبنا سلوكه هي مقولة خاطئة.. فكل الناس الذين يعجبوننا أو لا يعجبوننا لديهم أخلاق. ويشترك مجتمع واحد في قيم أخلاقية متشابهة، باستثناء البعض القليل الذي يختلف في بعض قيمه عن الغالبية العظمي من مجتمعه، وهذا القليل هو الذي يقود عملية التغير في تلك الأخلاق، يقودها في نظرنا للأفضل أو للأسوأ، لكن حتمية التغير في الأخلاق، مثل حتمية الحياة والموت.. فهناك شيء يولد، وآخر ينسحب تدريجيا، وبعد قليل يموت. والتغير في الأخلاق دائما ما تواجهه الغالبية العظمي في المجتمع بالرفض، وتقاومه مقاومة شرسة، وتدريجيا تتحول تلك المقاومة إلي مساندة، والرافضون يصبحون من المؤيدين والداعين للتغيير. بعض السلوكيات الأخلاقية تستفزنا هذه اللحظة، لو انتظرنا قليلا، ستصبح "عادية" وسنظل بعض الوقت لا نراها كذلك ونقيم حاجزا قويا لمنع دخولها إلي عاداتنا وتقاليدنا، ومع مرور الوقت أيضا، سنتقبلها، وربما نصبح من أنصارها، بل والمروجين إلي محاسنها. كلمة "عادي" أصبحت تتردد كثيرا علي ألسنة الشباب، وتحولت إلي إحدي مفرداتهم اليومية للتعبير عن ردود أفعالهم تجاه أي موقف، أو سلوك، يراه الناس مستهجنا، وغريبا، لكن رد الشباب علي العكس تماما مما نراه نحن، ويقول علي الفور "عادي". بعض الناس وأنا منهم، أقاوم ذلك "العادي" رغم إيماني أنها مقاومة شبيهة بمقاومة طواحين الهواء. وتعليق "عادي"؟؟ أسمعه في اليوم عشرات المرات، من أبنائي، من زملائي الشباب في العمل، وفي الشارع. مثلا كثيرا ما نصف شخصا بأنه "راجل"، بل وحتي امرأة، لأن المقصود هو السلوك الشهم والجدعنة، ولكن عكس هذه المعاني، هو ما أصبح المنتشر، ومع ذلك تسمع من الشباب ذلك التعليق الذي يسبب لي حساسية: "عادي"! فقدان معني الرجولة أي الشهامة والإخلاص والجدعنة لا يجب أن يكون أمرا عاديا. مثال آخر، قد تكون جالسا في مطعم أو كوفي شوب من تلك المودرن، وتلاحظ وجود فتاة وشاب ملتحمين، كالحمامتين المتحابتين، فتجد المكان والمشهد مليئاً بالبهجة.. وفجأة يطلبان الحساب استعدادا للانصراف، وتتسلم الفتاة الشيك وتدفع.. والشاب يتابع.. "عادي".. وعندما كانت الأخلاق تملي أن يتولي الرجل دفع الفاتورة أو الحساب لم يكن ذلك من قبيل القوة والقوامة، بل من منطلق الجنتلة وكانت تلك من ايتيكات "الرجولة"، ومن سمات ثقافة تقدير الآخر. لكن المشهد أصبح معاكسا تماما، ولن أجرؤ علي القول إننا نعاني من "نقص" الرجولة، في السيدات والرجال علي حد السواء.. والشباب يرد "عادي" أيضاً! أحيانا في مكان مميز داخل فندق أو مطعم، تجد امرأة كبيرة في السن، متصابية في كل ما تلون به نفسها، وفي صحبتها شاب يصغرها بأكثر من نصف عمرها، ولا تصلح له سوي خالة أو عمة لأنها في سن الأمهات بالنسبة له، ولكن تراهما يتحابان في منظر منفر يغيب عنه الانسجام وقوانين الطبيعة. إنه منظر صادم لي، ولكثيرين غيري، ولكنه أصبح من المشاهد المألوفة في عدد من المطاعم والمزارات المعروفة، ولو طلبت معرفة رأي المحيطين في الموقف من الشباب فلن أجد استهجانا يشبه استهجاني، بل سأستمع إلي نفس التعليق حوله من الشباب: عادي! مشهد آخر مشابه: رجل كهل يغطي الشيب مفرقيه، ربما تعدي الستين وقارب علي السبعين، وظهرت عوامل التعرية، وانتفخ الكرش وتراكمت الدهون في مناطق متفرقة من الجسم.. يجلس في مكان عام لكن فخيم.. بجانبه "سنيورة" في العشرينيات تنشر الضحكات والبهجة، ولكن عناصر اللطف المصطنعة واضحة ولا تحتاج دليلا علي وجود فروق جوهرية بين الشخصين.. فهل هذا مشهد عادي؟؟.. نعم أصبح يوصف بذلك.. لكني لا أعتقد أني من الممكن أو المحتمل يوما أن اعتبرها كذلك أمرا عاديا! كلمة أصبحت مقيتة، وأتمني لو كانت لدي القدرة علي حذفها من القاموس، ومن الاستخدامات ومن الذهنية. فهي علي لسان الشباب كالعلكة فكل شيء في عيونهم ومقاييسهم غريب، هو عادي..! ألم أقل في البداية إنها الأخلاق التي قانونها التغير؟ علي كل لو هذا القانون حتما يتحقق فإني أتمني أن أعيش فقط في عصري ومنظومة الأخلاق التي تربيت عليها، ولا أتمني أن أعيش في عصر ال "عادي".