رأينا في مقالنا السابق أن هناك ما يشبه الإجماع بين المراجع المعنية علي أن نظام التعليم العصري، الذي يحفز التفكير النقدي ويشجع علي الابتكار والابداع، هو أحد الدعائم الأربع الرئيسية لما أصبح يعرف باسم "اقتصاد المعرفة"، أي الاقتصاد الذي يعتمد في المقام الأول علي المعرفة علي عكس الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد أساساً علي الموارد الطبيعية. وبعبارة أخري فإنه اذا كان الاقتصاد المبني علي الموارد الطبيعية هو ابن الثورة الصناعية، فإن اقتصاد المعرفة هو ابن الثورة المعلوماتية. وبالتالي فإن الانتقال إلي اقتصاد المعرفة ليس "اختياراً أيديولوجيا" وإنما هو ضروة بقاء في ظل هذا التحول الموضوعي الذي تشهده البشرية في مطلع الألفية الثالثة. وكان هذا هو موضوع ورشة العمل التي نظمتها مكتبة الإسكندرية في الفترة من 17 إلي 21 مايو الماضي عن "تطوير استراتيجيات اقتصاد المعرفة لتحسين التنافسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، بمشاركة منتدي الاصلاح العربي ومنتدي البحوث الاقتصادية ومعهد البنك الدولي والمدرسة الكورية الجنوبية للسياسة العامة والإدارة والمجلس الوطني المصري للتنافسية. فما هو وضع مصر فيما يتعلق بهذه الأعمدة الأربعة التي لا يقوم اقتصاد المعرفة بدونها مجتمعة؟ "التعليم" كان الكلمة الأكثر تردداً في كل الجلسات وجميع المناقشات، باعتبارها "كلمة السر" التي تفتح جميع الأبواب الموصدة في وجوهنا والتي تمنعنا من ملاحقة تطورات عصر ما بعد الصناعة. وشدد جميع المشاركين - أجانب وعرباً - علي الأهمية القصوي لمنظومة تعليمية عصرية مصرية. ولم يشذ المصريون عن هذا المنهج رغم اختلاف وتنوع مدارسهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية. وكان من اللافت للنظر بهذا الصدد أن هذه القضية هي نقطة التقاء بين جميع المفكرين والخبراء المصريين بصرف النظر عن انتماءاتهم إلي "الموالاة" أو "المعارضة". وعلي سبيل المثال فإن الدكتور شريف عمر رئيس لجنة التعليم بمجلس الشعب، وأحد أبرز قيادات الحزب الوطني الحاكم، لم يتردد في أن يضع يده علي مواطن الداء، مؤكداً - دون لف أو دوران - أن "ترتيب مصر قد انخفض وفقاً للمؤشر العالمي للقدرة التنافسية لهذا العام وتراجع مركزها بين الدول لتحتل المركز 77 مقارنة بالمرتبة 71 في العام الماضي ويرجع ذلك إلي تراجع مؤشرات رأس المال البشري وتراجع مرتبة مصر بالنسبة لمؤشرات التعليم الأساسي، ويعود التراجع في ترتيب مصر بالنسبة لمؤشرات التعليم إلي سوء عمليات تقييم جودة المدارس الابتدائية، وقد تدني ترتيب مصر في مكون التعليم الأساسي بنحو خمسة وستين مركزاً، أي من المركز 39 إلي 94 ومرجع ذلك بصفة أساسية إلي سوء مستوي المدارس الابتدائية وهو مؤشر جديد لقياس جودة التعليم الابتدائي". وقال الدكتور شريف عمر، بعد هذه التفاصيل المفزعة، أنه لم يكن غريبا والحال كذلك أن احتلت مصر أسوأ المراكز بين البلاد التي شملها الاستقصاء إذ إنها تحتل المركز 129 بين 131 بلداً"!. وليس الحال أفضل بالنسبة للتعليم العالي، حيث يرصد الدكتور شريف عمر تراجع ترتيب مصر أيضا فيما يتعلق بجودة وكم التعليم العالي والتدريب، "وتمثل الجودة أكبر نقاط الضعف لتحتل المركز ،102 وأيضا تدني وضع التعليم العالي حيث تراجعت مصر بمقدار 11 مركزاً، أي من المركز 69 عام 2007 إلي المراكز 80 عام ،2008 وتراجع مؤشر التدريب العملي من 68 إلي 82 خلال ذات الفترة". كما أن الوضع "لايزال متدنياً بالنسبة للإنفاق علي التعليم من إجمالي الناتج المحلي". وقبل محنة التعليم الابتدائي وكارثة التعليم الجامعي توجد وصمة الأمية، والأرقام التي أوردها الدكتور شريف عمر مخجلة جداً حيث تقول إن معدل الأمية في عام 2003 كان 17% بين الذكور و6.40% للإناث في حين أنها 3.15% من الذكور و30% من الإناث في الدول العربية، وهي 3.6% من الذكور و6.11% بين الإناث في جنوب شرق آسيا و5.6% من الذكور و3.9% من الإناث في دول أمريكا اللاتينية". وهذه الأرقام تقول إننا الأسوأ علي الاطلاق فيما يتعلق بمعدل الأمية!! ويستنتج الدكتور شريف عمر من هذه الصورة القبيحة أنه "إذا لم يتم علي الفور إدخال تعديلات جوهرية علي السياسة التعليمية والتدريبية ستصبح مشكلة عدم المواءمة بين مخرجات التعليم والتدريب ومتطلبات سوق العمل عرضة للتفاقم في المستقبل القريب". أي أن هذه السياسة التعليمية والتدريبية الحالية تنذر بأن ينزلق اقتصادنا إلي أوضاع اسوأ، بدلاً من أن تدفعنا إلي التطلع إلي آفاق اقتصاد المعرفة.