قليلون هم الآن الذين لا يرون أن الاقتصاد العالمي أصبحت المخاطر تحفه علي نحو لم يحدث منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي فالطلب يهبط في كل انحاء العالم بسبب معاناة الشركات والمستهلكين معا من العجز المميت الذي أصاب أسواق المال، والثروات تتناقص ومعدل البطالة يرتفع والخوف يملأ كل الأرجاء.. وفي آخر توقعاته التي نشرت يوم 28 يناير يري صندوق النقد الدولي أن العام الحالي 2009 سيجلب معه أعمق حالة ركود اقتصادي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن حكومات العالم تحارب الركود بهمة غير معهودة إلا في أزمنة الحروب وتقدم حزم تحفيز مالي تمثل قيمتها نسبة عالية من إجمالي الناتج المحلي بلغت في بلد مثل الصين 15% وفي أمريكا 5.8% وفي إيطاليا 4.3% وفي ألمانيا 3.1% وفي كندا 2% وفي اليابان 2% أيضا وفي فرنسا 1.5% من إجمالي الناتج المحلي، وذلك بمتوسط عام 3.6% من اجمالي الناتج المحلي في الدول الصناعية السبع الكبري إلي جانب البرازيل وروسيا والهند والصين مع ملاحظة أن هذه المحفزات المالية مقسمة علي عدة سنوات ولن يتم إنفاقها في عام واحد.. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تكون قيمة المحفزات في عام 2009 سواء جاءت في شكل إنفاق أو خفض للضرائب 1.5% من اجمالي الناتج العالمي. وفي كثير من البلدان الغنية تمول الحكومات عمليات إنقاذ للجهاز المصرفي بمبالغ تعادل واحيانا تزيد بكثير علي قيمة المحفزات المالية وتتخذ هذه العمليات شكل إعادة رسملة للبنوك وضمان للأصول المضطربة وفي بلد مثل الولاياتالمتحدة وحده تبلغ قيمة الأموال المقرر إنفاقها لإنقاذ الجهاز المصرفي الأمريكي تريليون دولار أي نحو 7% من إجمالي الناتج المحلي في هذه الدولة. ونتيجة لهذه الإنفاقات إلي جانب تراجع حصيلة الضرائب وزيادة الإنفاق علي إعانات البطالة فإن صندوق النقد الدولي يتوقع أن يشهد العام الحالي 2009 زيادة في العجز المالي بحيث تبلغ نسبته 7% من إجمالي الناتج العالمي في حين كان هذا العجز في عام 2007 أقل من 2% ومع نهاية العام الحالي سيزيد إجمالي الدين الحكومي في الدول المتقدمة 15 20% عما كان عليه منذ عامين فقط. ولابد أن نذكر هنا أن معدلات العجز المالي في الاقتصادات الناشئة ستكون أقل منها في الدول المتقدمة وذلك لأن بنوك هذه الاقتصادات الناشئة في وضع أقل سوءا إلي جانب أن ما تقدمه من محفزات قيمتها أقل.. ومع ذلك فإن دول الأسواق الناشئة سوف تعاني في عام 2009 عجزا في موازناتها يناهز ال 3% بعد أن كانت هذه الميزانيات تحقق فائضا في عام 2007. وعموما فإن معظم الاقتصاديين يتفقون علي أن التمويل بالعجز أمر لا مفر منه وأنه كذلك إجراء صحيح ومناسب، فالحكومات مطالبة بألا تترك الركود العميق يتحول إلي كساد ولذلك فإن عليها أن تحول دون حدوث انهيار مالي وأن تعوض في نفس الوقت ما يحدث من تراجع في الطلب الخاص.. والملاحظ أن عوائد السندات الحكومية في معظم البلدان الغنية قد انخفضت بشدة بينما يتساءل المستثمرون المصدومون بكلمات صاخبة عن درجة الأمان التي وصل إليها الدين العام بسبب هذه التدخلات الحكومية. ولسوء الحظ فإن التكلفة السياسية لعملية إنقاذ البنوك وما تتطلبه من إنفاق باهظ تجعل كثيران من السياسيين في البلدان الغنية عازفين عن الإنفاق المكثف.. ويؤكد التاريخ أن هذا موقف خاطئ حيث إن الفشل في إصلاح النظام المصرفي المأزوم سيعني استمرار الركود الاقتصادي لفترة أطول كما أنه يقلل من الأثر الإيجابي للمحفزات المالية. ولا شك أن طول مدة الركود سوف يؤدي في النهاية إلي زيادة ضخمة في الدين العام وذلك حسب دراسة حديثة قام بها كل من كين روجوف الأستاذ بجامعة هارفارد وكارمن راينهارت الأستاذة بجامعة ميريلاند حول تجارب الركود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتبين منها أن استمرار الفشل المصرفي دون علاج لفترة طويلة يمكن أن يؤدي إلي زيادة الدين العام ليصبح أكثر من 80% من إجمالي الناتج المحلي. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن سير العمل علي إصلاح النظام المصرفي مع تقديم حوافز مالية للنمو جنبا إلي جنب يفيد كثيرا في زيادة الطلب ومن ثم تنشيط الاقتصاد. والملاحظ أن خفض الضرائب الذي قررته معظم الدول ذات الاقتصادات الكبيرة ينصب أساسا علي الأفراد وليس الشركات وأن هناك قلة من الدول منها كندا وروسيا ستخفض الضرائب علي الشركات أيضا.. ولكن معظم المحفزات المالية علي مستوي العالم تأتي في صورة زيادة الإنفاق الحكومي خاصة علي مشروعات البنية الأساسية، وتفترض النظرية الاقتصادية أن هذا هو الطريق السليم لزيادة الطلب. فعندما يعاني المستهلكون والشركات من عدم اليقين تكون زيادة الإنفاق الحكومي هي الأسلوب الصحيح لتنشيط الطلب لأن الأفراد والشركات عادة ما يميلون في مثل هذه الظروف إلي ادخار ما لديهم من أموال تحسبا لمواجهة ما هو أسوأ. يبقي أن نقول إن جرأة السياسيين في الإنفاق علي إنقاذ الأجهزة المصرفية المعتلة.. وسخاء البلدان القادرة في تقديم كل ما تقدر عليه من محفزات مالية ونقدية وتخلي المستثمرين عن مخاوفهم وبالتالي إقبالهم علي الاستثمار مرة أخري في الأسواق الناشئة هي ثلاثة شروط ضرورية للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة بالسرعة الكافية وضمان عدم تحول الركود إلي كساد عظيم.