كل منا يسافر دوما إلي طفولته، ولا أحد مثل الفنان قادر علي بهجة تنقية الحياة من أحزانها والتقاط موسيقي الشجن لتحويلها إلي إبداع. وفاروق حسني كمصور رسام قادر طوال الوقت علي التقاط ألوان لا يعرفها غيره، لأنها تخصه وحده، ليرسم بها لهو الطفولة وهو في قمة النضج. علميا وعمليا كلنا نعرف أن في داخل كل خلية من خلايا المخ طاقة هائلة نقرأ بها خرائط الروح، ويسمونها "النبوءة الذاتية" أي أن كل منا يعيش حياته ليطبق عمليا ما أوحت به فكرته عن نفسه إلي العالم المحيط به. وأي مبدع هو من يستعرض خرائط الروح التي تملأ أعماقه، ليقرأ علي ضوئها حقائق مستقبله. وفاروق حسني مؤلف الموسيقي اللونية الهائلة يؤكد ذلك في معرضه الأخير المقام حاليا بقاعة الزمالك. وحين دخلت إلي المعرض، تعمدت ألا يكون ذلك في يوم الافتتاح حيث يزدحم الجمهور الذي يرغب في التعبير عن المودة للفنان، ففي الزحام لا أستطيع أن أسمع همس الألوان ولا موسيقاها، لذلك اخترت يوما مختلفا عن يوم الاحتفال. ووجدت أمامي لوحات ينطبق عليها ما قاله فاروق حسني ذات يوم "حين انفجرت في أعماقي رغبة الرسم بالتجريد التعبيري، رأيت أن القدر يهديني رسوما سبق أن مرت بخيالي وأنا ألعب علي شاطئ البحر بالرمال، فكأن ما أرسمه هو هدية من تاريخي لي". ونسي فاروق حسني أن يضيف "أن الموسيقي التي توجد في كل لوحة هي التي تخلق جمالها الخاص"، وهو عندما نسي قول ذلك كان يؤكد الحقيقة المؤكدة في كل رسم يملك خصوصيته، لابد وأن تكون له موسيقي، فمن الموسيقي تبدأ الحياة وبدونها لا وجود للكون. وبجمال ما تهديه الموسيقي لنا يمكننا أن نتحمل كروب الركاكة التي تحيط عالمنا. والكروب التي تحيط عالمنا هو إصرار البعض منا علي ألا يري سوي أطماعه فيلغي كل ما يعرقل فوزه بما يطمع فيه حتي ولو كان باطلا، وينسي كل طماع حقيقة المرارة التي ستبقي في فمه حين يعرق غيره. ولأن فاروق حسني يجيد تذوق الموسيقي كما يتنفس، لذلك كان من السهل عليه أن يملك تلك الخاصية الفريدة التي تجعله واحدا من سبعين فنانا عالما يقودون الحركة التشكيلية في الكون كما تقول مجلة الفنون الجميلة الفرنسية إن ألوان فاروق حسني شديدة الخصوصية. وبراءتها غاية في النقاء علي الرغم من تعدد ألوان كثيفة في اللون الواحد. ولن تبرح خيالي تلك النقاط الحمراء علي السطح الأزرق، وهي تعلو بضوئها حينا وتخفت في حين آخر. وهي نقاط موجودة في إحدي اللوحات الموجودة بالمعرض. ومن يرغب في السفر إلي البحر الذي شاهده معظمنا في الطفولة، فعليه أن يزور معرض فاروق حسني حيث سيري تسعة عشر شاطئا يمكن أن يرقب فيها ما حدث في الطفولة. إنها تسع عشرة لوحة تخص فاروق حسني علي وجه خاص، وتخص كل طفولة موجودة في أعماق من يراها بعمق. وأخيرا أقول: صار من الركاكة أن أعلن أن شهادتي لفاروق حسني مجروحة لأني أعمل معه، وليس من المعقول أن توجد كل تلك البراءة الفادحة الصفاء دون أن أنبه إليه كعاشق للوحات، أي لوحات تملك طاقة من موسيقي.