يوم الاثنين الماضي شهدت دولة الكويت حدثا من نوع جديد مثير ومقلق. فقد خرج آلاف من العمال الآسيويين في مظاهرات شبه عنيفة قاموا فيها بقلب بعض السيارات ومهاجمة المكاتب للمطالبة بزيادة أجورهم وتحسين ظروف معيشتهم. ولم تستطع الشرطة الكويتية السيطرة علي الأمر إلا باستخدام الغاز المسيل للدموع، وبعد ذلك قامت بإلقاء القبض علي عدد من المحرضين وترحيلهم خارج الكويت..! وصحيفة "الأنباء" الكويتية وفي صدر صفحتها الأولي وصفت ما حدث تحت عنوان "واندلعت ثورة الجياع". والواقع أن ما حدث في الكويت كان متوقعا، فقد حدث من قبل في دول خليجية أخري، وسيتكرر حدوثه في مناسبات عديدة لأن العمالة الآسيوية أصبحت أكثر تنظيما وترابطا، ووجدت في المناخ العالمي الجديد الذي يدعم حقوقهم متنفسا تعبر فيه عن سخطها علي أوضاعها وعن ضعف مرتباتها. وليت الأمر هو سيتوقف عند حدود المطالبة المادية وتحسين الأوضاع المعيشية إذ إن هناك مؤشرات عادية علي أن هناك مطالبات بحقوق سياسية أيضا ورغبة في توطين هذه العمالة الآسيوية إن لم يكن المطالبة بمنحها حقوق الاقامة والجنسية. ولقد كانت هناك تحذيرات كثيرة من خطورة زيادة أعداد العمالة الآسيوية علي هذا النحو في دول الخليج العربية، وكان صاحب هذا القلم من الذين شاركوا في اثارة هذه القضية عبر سنوات طويلة مشيرا إلي خطورة الاخلال بأمن الخليج من خلال وجود عمالة ثائرة مدربة عسكريا وقادرة علي القيام بأية أعمال ارهابية مدمرة في دول الخليج العربية إذا توافر لها الدافع وإذا وجدت قيادة داخلية منظمة وموجهة خارجيا. وكان هناك نوع من التجاهل الخليجي لكن هذه التحذيرات لعقود طويلة حيث ساد اعتقاد بأن قوات الأمن قادرة علي السيطرة وأن معظم القادمين للعمل هم من العمال البسطاء الباحثين فقط عن الرزق والذين لا يملكون الجرأة علي القيام بأي عمل ضد القانون. وكان نظام الكفيل المطبق في دول الخليج العربية يمثل نوعا من الاستعباد والتحكم في هذه العمالة ويمكن الدول من فرض سيطرتها عليها. إلا أن ذلك كله قد تغير بفعل رياح الديمقراطية وأفكار حقوق الإنسان والشفافية ونشوء وظهور منظمات حكومية وغير حكومية قوية ومؤثرة تدعم وتدافع عن حقوق الإنسان، وبفعل ثورة الإعلام والفضائيات التي أزالت الحواجز والمسافات وأوجدت نوعا جديدا من الوعي والتقارب بحيث أصبح من الصعب علي أي دولة أن تطبق قوانينها المحلية والخاصة بها بمعزل عن المجتمع الدولي أو بصورة مغايرة لتصورات واتجاهات هذا المجتمع. ومع اندلاع اضرابات واحتجاجات العمالة الآسيوية في عدة دول خليجية في السنوات الأخيرة فإن الحكومات الخليجية بدأت تأخذ بجدية التحذيرات التي سبق أن أثيرت حول مخاطر وجود هذه العمالة الآسيوية الغريبة عن دول الخليج سلوي ودينا..! وجاءت أحداث الكويت الآن لتفتح الملف بنوع جديد عن الاجتماع والقلق فالخطر الآن يمتد ليشمل الجميع وهو خطر لا يقل عن خطر الارهاب إن لم يكن أشد ومواجهة هذه المظاهرات والاحتجاجات العمالية الآسيوية بالقوة قد تكون له عواقبها الوخيمة، كما أن الترحيل الجماعي لبعض العمال مسألة ليست بالسهلة ولا بالممكن تحقيقها تلقائيا لأنها ستخلق نوعا من رد الفعل العالمي الرافض لموقف هذه الدول والداعم للعمالة المطرودة. والقضية الآن ستكون موضوعا للبحث بموضوعية ودون انفعال فدول الخليج لا تستطيع الاستغناء عن العمالة الآسيوية لأن اقتصاد هذه الدول قائم علي وجود هذه العمالة الفنية المدربة والتي تدير معظم مشروعات ومرافق البنية التحتية بهذه الدول فلا يوجد مواطن خليجي علي سبيل المثال يستطيع الوقوف في الشمس الحارقة ومنذ الصباح الباكر للقيام بأعمال البناء أو رصف وشق الطرق..الخ. ولن يكون من السهل كذلك استبدال هذه العمالة الآسيوية بعمالة عربية لأن العامل العربي مرتبه واحتياجاته أعلي كثيرا من الآسيوي، كما أن بعض دول الخليج العربية تتحسس كثيرا من وجود جاليات عربية بأعداد كبيرة وتعتبر ذلك بمثابة نوعا من الخطر أيضا عليها. ولقد كان تصريح المستشار العمالي في السفارة المصرية لدي الكويت محمد سعد حول استعداد مصر لتوفير العمالة المصرية للكويت وسد احتياجات كل الوزارات والهيئات والمؤسسات في حال وجود أي نقص في العمالة تصريحا في غير وقته تماما إذ إنه يثير ويهدد سلامة العمالة المصرية في الكويت ويثير الحساسيات بينها وبين العمالة الآسيوية الثائرة وقد يدفع إلي أعمال عنف بين الجانبين ولعواقب خطيرة خاصة وأن هناك عشرة عمال مصريين تعرضوا بالفعل لأعمال عنف، في مقار سكنهم في بعض المناطق التي حدثت فيها الاضرابات نتيجة لرفضهم المشاركة. وكان الأفضل علي المستشار العمالي المصري لو أنه أبلغ حكومة الكويت باستعداد مصر القيام بأي دور دون الاعلان عن ذلك في الوقت الحالي في وسائل الاعلام. ولا نستطيع علي أية حال أن نقدم رؤية واضحة لما يجب أن يكون عليه الحال وما الذي يجب أن تفعله حكومات دول الخليج العربية أمام هذه الأزمة الجديدة المقلقة، وإن كان الحل كما يطالب البعض مصر منحها الكثير من الحقوق وزيادة مرتباتها والغاء نظام الكفيل، وهو حل نري أنه لن يقدم كثيرا في حل المشكلة لأن المطالبة لن تنتهي بعد ذلك فالسلسلة طويلة وحلقاتها متشابكة، والتنازلات ستتوالي، وقد يأتي اليوم الذي يطالب فيه البعض بأن تكون اللغة الهندية لغة رسمية مثلا في بعض دول الخليج العربية وبعدها تتوالي المطالب بالمشاركة السياسية في طريق بلا نهاية.. إن ثورة الجياع في دولة الكويت الثرية قد أطلقت اشارة تحذير قوية نأمل ألا يتم تجاهلها وأن ندرك ونتفهم أن القادم أخطر أن لم نبدأ برنامجا للعمل الجماعي وسلسلة إجراءات تضمن ألا يتكرر ذلك مرة أخري..! [email protected]