الكلام الذي نقلته وكالة "رويترز" عن مصادر إسرائيلية وأوروبية بشأن تحذير وجهته حكومة إيهود أولمرت عبر طرف ثالث إلي دمشق يتعلق بامكانات رد حزب الله علي جريمة اغتيال عماد مغنية يتطلب قراءة ثانية نظرا لخطورته الجيوسياسية. الكلام يشير إلي أن تل أبيب قررت تعديل قواعد اللعبة في حال أقدم حزب الله علي توجيه ضربة عسكرية. فالرد لن يكون علي لبنان أو أنه لن يكتفي بالاعتداء علي مواقع لحزب الله بل سيكون شاملا ويتجاوز الحدود الدولية. هذا الكلام الذي سربته مصادر عسكرية عن هيئة أركان الجيش الإسرائيلي قد يكون مناورة وغير دقيق ومجرد بالون اختبار للتخويف. وقد يكون أيضا بداية تغيير في مجري الصراع الإقليمي وخطوة لتعديل قواعد اللعبة التي استقرت في العقود الثلاثة الماضية علي تحميل لبنان مسئولية كل فعل عسكري ينطلق من أراضيه. وفي حال صحت المعلومات التي سربتها قنوات دبلوماسية إلي دمشق وأكدت فيها أن تل أبيب ستتجه هذه المرة إلي تحميل سورية مباشرة مسئولية أي عمل يقوم به حزب الله فمعني ذلك أن المواجهة المقبلة ستكون أوسع من الدائرة اللبنانية، وربما تؤدي إلي استدراج المنطقة إلي حرب شاملة. هذا التقدير مجرد فرضية، لأن المعلومات المنقولة عن مصادر عسكرية قد تكون مشوشة وغير دقيقة ولكنها تحتمل بعض الصدقية إذا كانت حكومة أولمرت جاهزة لمثل هذه المواجهة الشاملة والواسعة. "لكن" مشروطة ب "إذا" الكبيرة. فإذا صحت المعلومات تكون فعلا "إسرائيل" دخلت مرحلة جديدة من التعامل مع دمشق بعد هدنة عسكرية طويلة امتدت من قرار وقف إطلاق النار بعد نهاية حرب أكتوبر 1973 إلي أيامنا الحاضرة. وهذا التعديل في قواعد اللعبة، إذا صحت معلوماته وتقديراته، سيضع الصراع المسلح تحت سقف إقليمي وسيحرج مختلف القوي والفصائل نظرا للكلفة العالية والغالية المتوقع حصولها في حال اتخذ قرار الرد. حتي الآن لا تظهر في الأفق السياسي مؤشرات تؤكد هذا الاتجاه بل إن المعلومات التي تتسرب تشير إلي وجود توجه "سلمي" من جانب حكومة أولمرت نحو دمشق. وأنه جرت في هذا الصدد الكثير من اللقاءات والاتصالات والتفاهمات عبر قنوات ثالثة وأحيانا مباشرة لتثبيت قواعد اللعبة في إطارها السابق.. أي ترك لبنان ساحة مفتوحة ومكشوفة لتوجيه الرسائل الإقليمية المتبادلة. المعلومات إذا مشوشة وتحتمل المناورة و"لكن" في حال صحت فإن الأمر يتطلب رؤية جديدة في التعامل مع الموضوع. وهذا يعني أن تل أبيب بدأت تعيد النظر في قواعد لعبة لم تعد تفيدها وأخذت تنقلب عليها بعد تلك التجربة القاسية التي مرت بها خلال العدوان الأمريكي الإسرائيلي علي لبنان في صيف 2006. العدوان حصل تحت سقف قواعد اللعبة المتوافق عليها إقليميا منذ العام 1974. وتقوم علي أساس حصر مبدأ المواجهة العسكرية في الدائرة اللبنانية وتحميل لبنان (الدولة والمقاومة) مسئولية أي عمل يخترق الحدود أو يتجاوز سقف التفاهم المعمول به. وبسبب هذه اللعبة تحمل الشعب اللبناني ضربات مؤذية خلال العقود الثلاثة الماضية ودفع وحدة أثمان الصراع العربي الإسرائيلي. وأدت سياسة "مصائب قوم عند قوم فوائد" إلي تخريب العمران مرارا وتمزيق النسيج الاجتماعي ودفع الناس إلي حالات من التوتر واليأس والقنوط والهرب إلي الداخل أو الهجرة نهائيا من لبنان. هذه السياسة التي يمكن وصفها بأنها غير عادلة مرت في محطات مختلفة بدأت في مرحلة الوجود الفلسطيني المسلح واستمرت خلال فترة الاجتياح وتطورت ميدانيا واتخذت أشكالا مختلفة إلي أن استقرت أخيرا تحت سقف قرار دولي تحتمل فقراته قراءات يمكن تطويعها باتجاهات متضاربة. والقرار 1701 لا يشكل تلك المظلة الدولية التي تساهم فقراته في حماية لبنان (الدولة والمقاومة) باعتبار أنه يخضع لمجموعة تقديرات غير ثابتة ويمكن تعديلها تحت ذرائع قانونية أو عسكرية. ويشبه القرار المذكور مجموعة قرارات صدرت بشأن لبنان منذ عدوان مارس 1978 ولم تلق الادارة الدولية القادرة علي تنفيذها الأمر الي فتح الباب امام صراعات اقليمية مسلحة شكلت لبنان مسرحها الوحيد خلال العقود الثلاثة الماضية. الحروب الإسرائيلية الصغيرة والكبيرة التي نفذتها تل أبيب ضد لبنان جرت كلها تحت عنوان واحد أعيد إنتاجه واخراجه تحت ذريعة مملة ومكروهة وهي تحميل الحكومة اللبنانية مسئولية أي عمل عسكري ينفذ ضد الدولة العبرية، وتحت وطأة هذا التحامل شنت تل أبيب اعتداءات متكررة ضد الجنوب اللبناني منذ العام 1967 إلي العام ،1976 وبعدها طورت ضرباتها العسكرية ورفعت درجة سخونتها وصولا إلي تنفيذ اجتياحات ميدانية محدودة إلي أن قررت غزو لبنان في يونيو 1982. لقد كانت كل الهجمات تحدث تحت عنوان واحد وهو تحميل لبنان مسئولية أي عمل عسكري وتدفيع أهله ثمن الصراع العربي "الفلسطيني - الاسرائيلي". "المصب" يعني الساحة اللبنانية فهي المكان الذي تتجمع فيه الروافد وتلتقي في حوضة الممرات الموصولة جغرافيا بالينابيع، وبسبب نظرية لبنان "المصب" كان هو الطرف الوحيد الذي يدفع كلفة المواجهات بذريعة ان الدولة "والمقاومة أيضا" تتحمل مسئولية أي اختراق. وحين قام حزب الله بتلك العملية الدفاعية النوعية في يوليو 2006 لم تحمل حكومة أولمرت طهران أو دمشق مسئولية الفعل وانما اكتفت بتحميل لبنان "دولة ومقاومة" المسئولية وأخذت تحت سقف هذه الذريعة بتقويض هيكله العمراني وتقطيع أوصاله، فالعدوان لم يختصر ضرباته علي مواقع المقاومة وانما قام بتوسيعها وتمديدها لتشمل معظم الأراضي اللبنانية ولم تسجل حكومة أولمرت خطأ واحدا وراء الخط الأحمر خلال فترة الحرب التي امتدت نحو 34 يوماً، فالعدوان احترم قواعد اللعبة ولم يرتكب خطوة واحدة خارج الحدود المرسومة له. الآن تبدو المسألة مختلفة او انها علي الاقل بدأت تدخل مرحلة تتجاوز قواعد اللعبة التي مضي عليها نحو 30 سنة، فالكلام الذي نقلته "رويترز" عن مصادر عسكرية اسرائيلية يؤشر الي وجود توجه لدي حكومة اولمرت يستهدف تغيير قواعد اللعبة وتوسيع دائرة المسئولية وتحميل دمشق نتائج أي فعل أو ردة فعل تصدر من الجانب اللبناني سواء علي الحدود الدولية او في الداخل الفلسطيني، اذا صحت هذه المعلومات المشوشة فمعني ذلك ان تل أبيب باتت في مزاج انقلابي أو هي في صدد اتخاذ قرار كبير يتراوح بين حدين: الحرب الشاملة أو السلام الشامل.