فرق كبير بين العراقيين: عراق الحرب ضد إيران 1980 : 1988.. وعراق الهزيمة الأليمة بضربة أمريكية مارس 2003 وحتي اللانهاية، بعد أن تلاشي أمل البنتاجون في تحقيق أي نصر ضد أطياف المقاومة العراقية الشرسة، وغرق الجميع في أتون حرب أهلية مفتوحة الأمد والاحتمال.. أعجزت جنرالات العسكرية الأمريكية عن وضع "تقدير موقف" لها، أو تصميم استراتيجية خروج منها "exitstrategy"! دعتني حكومة صدام حسين لزيارة العراق أوائل الثمانينيات وكان الهدف المغطي أن أزور جبهة القتال داخل الحدود الإيرانية.. زرت القطاع الأوسط من الجبهة وتوغلت حتي مدينة "قصر شيرين".. وكانت مازالت في القبضة العراقية.. مجرد مبان خالية وأرض موات.. طلبت أن أزور مدينة خورم شهر في القطاع الجنوبي قبالة البصرة.. أجابوني هما: "لقد استردها الإيرانيون"! أينما سرت جنوب بغداد أو شمالها كانت سيارات "البيجو ستيشن" تسابقني محملة بالنعوش العراقية.. ركزت عين البحث علي الجبهة الداخلية، الرجال الذين أفلتوا من جبهة القتال لحداثة السن أو كبره، أصابهم الملل والتململ واختطفهم البحث عن الرزق.. أما البنات فيبحثن عن عريس بالحلال.. بينما أضني الفراق الطويل زوجات المقاتلين علي جبهات القتال.. وقليلات منهن سقطن في أسن الانحلال! .......................................... لكن صورة الحب الشريف بين شباب العراق من الجنسين تتباين الآن وتختلف.. بحثا عن النصيب الشرعي، رغم تحليق شبح الموت علي كل حي في العراق، كل طلعة شمس. الدورة، من ضواحي بغداد، بها أكبر مصفاة بترول في المنطقة، وأكبر تجمع للمقاومة السنية.. تهاجمها القوات الأمريكية والعراقية في معارك ضارية كل أيام الأسبوع. قصة حب ولدت ونمت وسط انفجارات الصواريخ ودانات المدافع.. أسماء أبطال القصة تم تغييرها بطلب من أصحابها لحروجة دينية شديدة. سميرة عبيد 28 سنة تعمل بوظيفة مؤقتة في بغداد، وتقطع رحلتها آخر النهار إلي بيت العائلة في الدورة.. علي 32 سنة حبيبها، ليس جار شباك وإنما معرفة نمرة غلط علي تليفون محمول! ربطتهما مكالمة يومية بعد العودة من العمل، وعلي أصوات انفجارات الصواريخ وطلقات الرشاشات الثقيلة ارتعش قلبهما بنبض الحب!.. أن يلتقيا، خطر مستحيل.. كلاهما سني المذهب.. إلا أن عليا ينحدر من أصل شيعي لقبيلة مهيمنة في المنطقة.. وضبطهما معا في شوارع الدورة جرم يعرضه لجزاء صارم يفرضه عليه المتعصبون الذين يحكمون هذه الشوارع.. وينفذونه علي الفور! مرتب الحبيب علي 250 دولارا، التهمت كروت مكالمات الغرام علي المحمول ثلث المرتب! وعندما تقدم لخطبتها الخريف الماضي اكتشف أنها أجمل مما كانت معه في الخيال علي سماعة المحمول.. وتمتمت ليلي: "كنت واثقة أني وضعت يدي في يد الاختيار الصحيح"! واتفق الحبيبان علي مقاطعة المحمول حتي يتم الزواج، ضغطا للنفقات.. أياً كان يوم الزفاف، أو الشهر، أو السنة! ومثل كل الأحباب في بغداد هذه السنين العسرة، أصبح لقاء الحبيبين قبل الزواج شيئا كماليا.. وليس ضرورة بالمرة!! * * * الرومانسية في العراق ليست مبدأ ولا حكمة.. مجتمع مسلم محافظ هو الذي يرتب زواج الشباب ويرسي تقاليده.. لكنه قبل الغزو الأمريكي للعراق، في جامعات المدن الكبيرة مثل بغداد والبصرة، كان في مقدور شبابها أن يقيموا علاقات رومانسية، وأن يطمحوا إلي تحقيق زواج يقوم علي الحب، حتي لو تجاوزوا أي انقسام طائفي! وتجاوز الانقسام الطائفي بين الطبقات المستنيرة من الشيعة والسنة أمر مقبول ولا يثير مشكلة.. بل إنه من الممكن لشاب سني أن يأخذ موعداً غرامياً مع شابة شيعية تجيئه مع وصيفتها، يتناولون شيئا من عصير الفاكهة أو الآيس كريم أو السمك المسجوف في الكازينات المنتشرة علي ضفاف نهر دجلة.. وثمة منطقة واسعة شهيرة قرب جسر الجادرية علي نهر دجلة تستعمل أصلا لتعليم قيادة السيارات.. يستخدمها المحب أحيانا في عتمة المساء لتعليم حبيبته قيادة السيارة.. يساعدها علي نقل السرعة علي "الفيتيس"، ويختلس مسكة حنون ليدها المرتعشة! كل هذا كان شيئا مضي زمانه.. السيارات المفخخة والعنف الذي يجتاح عاصمة الرشيد كل مشرق شمس منذ سقوط صدام، أحال بغداد إلي جبهة قتال وقطعة من الجحيم.. ويجمع شباب بغداد من الجنسين علي أن عواصف الانفجارات والدمار اليومي المتربص جعلت أفكار الحب وأطيافه بلا محل لها ولا مقام! مني حسين 20 سنة كردية تعمل بالترجمة في إحدي مؤسسات المنطقة الخضراء بقلب بغداد.. تتمتم: "أحيانا أسرح وراء رغبة بالتمني تهاجمني.. لماذا لا تدخل حياتي قصة حب؟!.. لكني أفيق علي الفور وفي صدري إحساس بالذنب.. لماذا؟ لأني اتعطش للرومانسية، بينما وطني ينزف من الدم أنهارا"!