عادت قضية سكان "العشش" و"المقابر" الي الواجهة مرة اخري في ضوء اهتمام لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الاممالمتحدة بشأنها. فقد نشرت صحيفة "إلبابيس" الاسبانية قلق لجنة الاممالمتحدة من احوال 15 مليون مصري قالت انهم يعيشون في المقابر وقوارب نيلية وعشش فوق اسطح المنازل وأماكن اخري غير صالحة للسكن. وقالت ان هناك احصاءات غير رسمية تؤكد ان نحو مليون ونصف المليون يعيشون داخل المقابر، منهم 50 ألفا يعيشون داخل المقابر ذاتها بينما يقيم الآخرون في مساكن غير لائقة تم بناؤها فوق المدافن القديمة، وحتي يتأقلم السكان مع ظروف الاقامة في المقابر، قام بعضهم بسرقة خطوط الكهرباء القريبة أو مواسير المياه، اضافة الي اقامة بعض الورش والمحال التي تغطي احتياجاتهم!! والواقع انها قضية مؤلمة للغاية وثار الجدل بشأنها في المجتمع المصري طويلا وتداولتها الكثير من الاقلام الصحفية والافلام السينمائية ومع ذلك ظلت القضية بلا حل واصبحت جزءا من الواقع القائم وتأقلم معها المجتمع بحيث لم تعد تثير انتباهه أو قلقه أو يعمل علي ايجاد حلول لها. وتصل ذروة المأساة الي حد تأقلم سكان المقابر مع هذا الواقع ورفضهم ايضا الانتقال الي اماكن اخري عند تحسن احوالهم المادية، بل ان بعضهم يعتبر ان الاقامة في هذه الاماكن تتيح له حرية ممارسة بعض الحرف والاعمال التي تدر دخلا كبيرا دون ملاحقات أمنية او ضرائبية. ففي بعض المناطق التي تكثر بها تجمعات حول المقابر القديمة فانها اصبحت تتمتع بشهرة وجود العديد من ورش السمكرة والدهانات واصلاح السيارات التي يعمل بها عدة آلاف من أمهر العمال في هذا المجال والذين اصبح لهم زبائنهم من كل الطبقات الذين يقصدونهم من كل الاحياء المجاورة. ولكن هذا لا يعني القبول بوجود هذه الظاهرة كواقع لا سبيل الي تغييره أو تطوير وتحسين أوضاع المقيمين بهذه المناطق الي الافضل ومنحهم الفرصة في التكيف مع واقع اجتماعي جديد يراعي آدمية الإنسان ويلبي احتياجاته المعيشية والاجتماعية. فنحن نتحدث كثيرا عن العملية الديمقراطية والاصلاح السياسي ونبالغ في عقد الآمال علي التغيير علي انه الطريق لاصلاح مشاكلنا واحوالنا..! وهي نظرة ذات جانب واحد تغفل الي حد كبير القاعدة الاساسية في عملية النهوض والتحديث في المجتمعات وهي التي تركز علي ان تكون البداية متعلقة بتنمية الانسان أولا، فبدون ان تتحقق للانسان حقوقه الاساسية في مسكن ملائم وبنية اساسية متطورة وفرصة الحصول علي عمل مناسب ودخل يتلاءم مع متطلبات الحياة، فان هذا الانسان سيظل محروما من حقوقه الاساسية ولن يكون راغبا في ان يكون جزءا من المجتمع الذي ينتمي اليه..! ولعل هذا يفسر ظاهرة عزوف المواطنين عن المشاركة السياسية الفعالة وإحجامهم عن الادلاء بأصواتهم في الانتخابات العامة او الاستفتاءات المصيرية فهم علي قناعة بان اصواتهم لن تغير من واقع الحال وانهم ظلوا لعقود طويلة من الزمان يشاركون دون ان يتغير شيئا ودون ان يتحقق الرخاء الموعود الذي منوا أنفسهم به طويلا..! كما ان هذه الغالبية الصامتة التي تعيش اوضاعا اجتماعية واقتصادية صعبة لم تلتفت باهتمام الي دعوات بعض النخب لتحريكها شعبيا واستخدامها كوسيلة للضغط لانها من جانب آخر لا تثق في نوايا هذه النخب المثقفة ولا في نواياها ولا تريد أن تكون طرفا في قضايا هي في الاساس لصالح بعض النخب دون ان يكون المواطن العادي هو المستفيد منها ناهيك بالطبع عن عجز هذه النخب في ايصال رسالتها بوضوح وبواقعية واقناع الي المواطن العادي..! ولأن السلطات التنفيذية ادركت ان هذا الواقع من الصعب تغييره، وليس بالامكان ايجاد مساكن مناسبة لهذه الملايين التي اقامت العشوائيات في كل مكان، حول المقابر، وحول الاحياء السكنية فانها لجأت الي الحل الاسهل في هذه الاحوال وهو تقنين اوضاع المقيمين في هذه المناطق وادخال الخدمات اليهم واقامة مراكز للشرطة داخلها ايضا والاعتراف بها كأحياء سكنية متكاملة تستدعي وجود المدارس والمستشفيات والمجمعات الاستهلاكية وبذلك تتجنب الضغوط الشعبية من اجل حل مشاكلهم الاسكانية والاجتماعية. وفي رأينا فإن هذه حلول مؤقتة لمشكلة إنسانية متفاقمة يمكن ان تتحول مع الوقت الي مصدر قلق وتهديد للأمن والاستقرار الداخلي. ففي داخل هذه التجمعات المغلقة التي يتضاءل فيها نفوذ السلطات التنفيذية والامنية فان المناخ يصبح مهيئا لانتشار افكار التطرف والعنف وتزايد وجود وانتشار الجماعات الاصولية من منطلق ان الذين لا يعرفون معني الحياة يستعذبون دائما الموت ويبحثون عنه، ولا يوجد افضل من ان يموتوا شهداء كما يعتقدون اذا ما تم توظيفهم وتسييرهم في هذا الاتجاه..! كما ان العصر الجديد عصر السماوات المفتوحة حيث القنوات الفضائية التليفزيونية التي ازالت المسافات والحدود اتاح لهؤلاء ان يتعرفوا علي ثقافة المجتمعات الاخري وان يشاهدوا علي الهواء مباشرة مجتمعات مختلفة تنعم بالحياة والسعادة وتمارس حقها في الحياة وفيها الانسان يلقي كل التقدير والاحترام وهو ما سيساهم بلاشك في تغيير نظرتهم لواقعهم وتطلعهم الي التساؤل والتذمر ايضا من الواقع الذي يعيشونه والذي اعتادوا عليه..! ويزيد ايضا من احتمالات المخاطر في المستقبل ما اصبحوا يشاهدونه بالقرب منهم من تجمعات سكنية جديدة علي اعلي مستوي تقام للأثرياء والاغنياء وتنفق عليها المليارات والمليارات وتمارس فيها الحياة كما ينبغي ان تكون بينما هم بعيدون تماما عن اي تغيير متوقع وربما تزداد احوالهم سوءا وتدهورا. اننا يجب ألا نركن كثيرا الي ان هذه القضية تمثل واقعا تكيف معه اصحابها ولم تعد تشكل خطرا اذ ان الحقيقة هو ان الخطر يكمن في هذا الصمت الغريب الذي يتجاهل علاجها وايجاد حلول لها، فهذا البلد العظيم يجب ألا يكون فيه هذا العدد الكبير من السكان في هذه الدرجة الدنيا بينما نسمع عن تجمعات ومنتجعات في بعض مناطقنا الساحلية تباع فيها الفيللا الواحدة بثمن يكفي لبناء حي سكني جديد بالكامل..!