اكتشفت الكثير من أسرار مصر وعشقت العديد من رموزها وعرفت مناطقها وأحياءها وشوارعها بدون أن أزورها ومنذ مرحلة مبكرة من طفولتي وصباي.. من خلال وسيلة بسيطة في شكلها، عميقة في معانيها ومدلولاتها ألا وهي الألغاز. كنت أقرأ الألغاز وأتبادلها مع أصدقائي وزملاء الفصل كأنها ممنوعات، لأن المدرس لو راَها بين أيدينا يصادرها.. كان المدرسون زمان يعتقدون أنها تسطح تفكير الأولاد، وتفسد لغتهم وتلهيهم عن مطالعة كتب أرقي وأكثر قيمة وفائدة مثل كتب المنفلوطي وجودة السحار وتيمور والحكيم وغيرها من الكتب الأدبية المناسبة لأعمارنا. "سبحان الله كيف كنا وكيف أصبحنا!". وكانت غرامة المصادرة 100 مليم أول مرة، و200 مليم للثانية، أما في الثالثة فلا تعود الألغاز إلينا للأبد.. وكنا نجمع تلك المبالغ وكأنها دين عظيم من خلال التنازل عن مصروف أكثر من أسبوع لكل واحد منا، ونحرم أنفسنا من شراء الحلويات، واللب أو القلوب كما نسميها ونمشي علي قدمينا أكثر من 3 كيلومترات هي المسافة بين منازلنا والمدرسة حتي نوفر مصروف الركوب. ولكن لماذا تذكرت تلك الأيام الجميلة، بألغازها المحفورة في مخيلتي؟ لأني ببساطة عرفت من خلالها لأول مرة في حياتي حي المعادي حيث كانت تدور بعض مغامرات تختخ ومحب ونوسة وأصدقائهم. عشقت تلك الشوارع الواسعة بأشجارها وافرة الظلال، ودخلت بيوتها الساحرة بخيالي الذي يمتطي ذلك الوصف التفصيلي فيحلق اَلاف الكيلومترات فيتجول في شتي الأنحاء حتي تحط أجنحتي في مخفر الشرطة عندما تحل عقدة اللغز، وتكشف خبايا الجريمة، وتنتصر قيم العدالة، والأهم قيمة البحث عنها بواسطة العقول الصغيرة ولكن الذكية. وحي المعادي أصبح هذه الأيام بطلا لمانشيتات الصحف، مرة لأنه مقر إقامة سفير الكيان العدو، واحتلته القوات لتؤمن موكبه في "الرايحة والجاية"، فصار أهله ضيوفا في بيوتهم.. ومرة لأنه شهد حادثة فتاة المعادي الشهيرة، ومرة أخيرة لأنه مسرح أيضا لجرائم سفاح المعادي. ولا أخفيكم سرا أن ولعي بهذا الحي بدأ ينطفيء منذ سكنه السفير الإسرائيلي، علي قدر كرهي لدولته المغتصبة التي لا تحط قدما في مكان إلا عكرته ودنسته وزرعت فيه أشواكا وحنظلا ودمارا. وقلبي يتقطع ويحترق مع كل أصدقائي وجميع العائلات التي تقطن المعادي.. فأنا أعرف معني القلق الذي ينتاب الأمهات والاَباء علي أبنائهم.. ودمرت أعصابهم الأخبار والشائعات حول السفاح الذي يرتع في الدنيا فسادا دون أن يسقط في أيدي الشرطة، وتزداد ضحاياه يوما بعد يوم كأنه يخرج لسانه ليس لوزارة الداخلية ورجالها فقط وإنما لكل مواطن مصري. قلبي مرة أخري ينفطر مع سكان المعادي بعد أن شلت حركتهم، وتسمر تفكيرهم من شدة عجزهم، وأصبحوا يفتحون أبواب بيوتهم بعد سماع كلمة السر. ولا أصدق أن قوات الشرطة التي تفاجئنا بإلقاء القبض علي شبكات خطيرة للإرهاب، والتجسس، فنشعر أننا بخير، وأننا ننام في طمأنينة وعينها ساهرة تحمينا، هي اليوم عاجزة عن القبض علي سفاح المعادي، بل لا أستطيع أن أتخيل أنه يبعث لهم بعد كل حادث اعتداء رسائل معينة، دون أن يتوصل رجال الأمن إلي رسم ملامحه علي الأقل. هل من المعقول بعد 9 حوادث لم يره شاهد واحد، حتي لما اختار أن يطعن إحدي السيدات عدة طعنات في منطقة شعبية مزدحمة هي عرب المعادي! وطبعا الجميع يصرخ من خراب البيوت المستعجل ومن الشلل التام الذي أصاب أماكن الارتياد العامة وخدماتها، فقد تأثرت جميع مظاهر الحياة، ولا يجرؤ أحد علي الجلوس علي المقاهي، أو عبور الشوارع لشراء الاحتياجات. والغريب أن الشرطة ظاهرة ومنتشرة في جميع الأماكن، حتي المخبرين لا تخطئهم عين، فهيئتهم وملامحهم والجاكتة أو البلوفر، أو حتي الجلابية تكشفهم مهما حاولوا التخفي، وأجزم أن السفاح يحفظهم أكثر مما يعرف ضباط الشرطة أنفسهم زملاءهم. ولا أدري ماذا أقول بعد أن حير السفاح وزارة الداخلية بحالها: هل نحضّر أرواحا، أم نضرب الودع، ونفتح المندل، أم نقرأ الفنجان؟ لا أدري ماذا سأجمع من كلمات لأهدئ بها من روع أصدقائي في كل اتصال يومي بهم؟ ربما سأقول لوزير الداخلية ورجاله، ما قلته اليوم لصديقتي: يارب اتصل بكرة أهنيك بالقبض عليه! يارب أكتب المرة القادمة ويكون السفاح "شبع" سجنا! مع ذلك.. شكرا للسفاح! بعد تعدد اتصالات الطمأنينة اليومية علي صديقتي أم محمد من سكان المعادي تحولت المسألة إلي نكات علي طريقة "من الهم ما يضحك" أسرت إلي بأنها سوف تنشر شكرا رسميا للسيد السفاح النبيل في جريدة واسعة الانتشار بسبب أنه أعاد شمل أفراد الأسرة "زي زمان".. صحيح أن "الراجل مكلضم" لأنه موش عارف يشرب شيشة في القهوة مع أصحابه، وصحيح أن البنت أعلنت مقاطعة عن قضاء أي حاجة في البيت، ومحمد أمام الانترنت ال 24 ساعة.. بس الحلو أن وجههم في وجه بعض! شكرا للسفاح للم الشمل!