كلما تقدم العمر فالذكريات تتحول إلي قطرات من شهد قديم أتذكر ذلك اليوم الذي أصدر فيه فؤاد سراج الدين أوامره إلي عساكر بلك النظام كي يقاوموا اقتحام الجنود الانجليز مقر محافظة الاسماعيلية. أتذكر أن الصحف خرجت تنعي الشهداء، وأتذكر أن زملاء لنا في مدرسة محرم بك الخاصة اتهموا سراج الدين بأنه أراد المجد علي جثث الضعاف. أذكر كيف تحولت مدينة الاسكندرية إلي مرجل من غضب، لأن هناك من يموت في القناة من أجل تحريرها، بينما نحن نعيش في مناخ مختلف، فالاسكندرية أكثر هدوءا من أي منطقة أخري قريبة من قناة السويس. كنا أطفالا علي وشك أن ندق باب المراهقة، وكانت قناة السويس بالنسبة لنا عبارة عن قصة مسحورة فقد حفرها القدماء من الأجداد واستولي عليها الانجليز والفرنسيون في غمضة عين وظلت مجري مائيا لا حول لنا ولا قوة عليه. وحين تم تأميم قناة السويس، كان أول من تذكرناهم في الاسكندرية هم المجندون البسطاء الذين ماتوا دفاعا عن مبني محافظة الاسماعيلية أتذكر لحظة التأميم كانت جامعة الاسكندرية تعرض مسرحية ثورية، وفجأة أضاءت الأنوار، وصعد الدكتور السعيد مصطفي السعيد رئيس جامعة الاسكندرية في ذلك الوقت ليعلن خبر تأميم جمال عبدالناصر للقناة، وأضاف الرجل أن هذا القرار صدر منذ دقائق، أي أن د.السعيد مصطفي السعيد لم يطق صبرا، وأبلغ الحضور علي الفور، وفتحت أبواب المسرح، وخرجنا جريا علي الاقدام متجهين إلي المنشية، نصفق وكأن أمنا كنت تائهة أو مستلبة وتم العثور عليها وتحريرها. وبعد تأميم القناة بثلاثة شهور تقريبا بدأت الدراسة من جديد وكانت أول رحلة نقوم بها نحن طلبة مدرسة محرم بك الخاصة هي لمنطقة القناة، حيث قضينا هناك يوماً واحداً زرنا فيه مقابر الشهداء وقضينا وقتا طيبا في ضيافة هيئة قناة السويس حيث كان الاستاذ شوقي عبدالناصر وهو شقيق الرئيس جمال عبدالناصر هو المشرف علي الرحلة. كان الوطن أيامها غير مزدحم بالضجيج والصراخ، كأن رومانسية الأيام هي التي أزالت مرارة الغضب، وأسي استشهاد البسطاء، ولكني لم أشعر أبدا بضرورة اصدار فؤاد سراج الدين لقرار الدفاع حتي الموت عن مبني محاصر بقوات انجليزية من كل اتجاه. كان هذا هو موقف طلبة مدرستنا في ذلك الزمن، وهي المدرسة التي كانت تفخر علي بقية مدارس الاسكندرية أن شوقي عبدالناصر كان مدرسا بها وعلي الرغم من أن الليثي عبدالناصر كان مدرسا بنفس المدرسة، إلا أن شوقي عبدالناصر كان قريبا من قلوب الطلبة بأكثر مما يتخيل أي إنسان وحين تأتي أعياد الشرطة فأنا أتذكر كل ذلك ويقفز دائما في رأسي ما قلته قديما لصديقي الراحل الكريم عراوي جمعة عندما كان وزيرا للداخلية، الحلم هو أن تقوم الشرطة بجنود الأمن المركزي فيها باعادة بناء أقسام ومراكز الشرطة في كل مصر وأن يوجد تصميم معماري لذلك، وأن نعيد بناء حجرات الحجز بما يتناسب مع زيادة عدد السكان. مازال الحلم موجودا وفي انتظار من يحققه فهل يحققه حبيب العادلي؟ كل سنة وشرطة مصر بخير وأمان وسلام.