يحلو للبعض دائما التحدث عن "ريادة" مصر وكيفية استعادة مصر لمكانتها عربيا ودوليا..! ويتعامل هذا البعض مع قضية "الريادة" وكأنها إرث تاريخي محفوظ لمصر أو انه امر ممكن ان يتحقق بصدور قرار جمهوري بذلك..! ونحن نغفل في ذلك ان "الريادة" مفهوم قد تغير عن فترة الستينيات والسبعينيات إبان فورة حركات التحرر الوطني في العالم العربي حيث كان لمصر دور بارز في مساعدة الدول العربية علي الاستقلال ووضع اسس بناء الدولة الحديثة، وكان ما تملكه مصر من مقومات ثقافية وعلمية وفنية واجتماعية وعسكرية في ذلك الوقت كفيلا بأن يفرض علي الواقع العربي دورا مصريا مميزا ونظرة مختلفة في التعامل والتقدير. ولكن جاءت هزيمة 1967 التي كانت هزيمة غير متوقعة بهذا الحجم لتثير تساؤلات كبيرة في العالم العربي حول حقيقة وقوة هذا القلب الكبير الذي يعتمدون عليه، وان كانت نظرة التعاطف والتعاضد ظلت قوية بمفاهيم عاطفية أكثر منها واقعية. وعندما اقدم الرئيس الراحل أنور السادات علي زيارة القدس ثم توقيع معاهدة السلام المنفرد مع اسرائيل فانه فك الارتباط العاطفي الذي كان قائما بين مصر والدول العربية، وساهمت المقاطعة العربية لمصر في زيادة مساحة التباعد واتجه العرب غربا يتعاملون مع عالم جديد وفكر مختلف وارسلوا طلابهم وبعثاتهم التعليمية الي الجامعات الاوروبية والامريكية بدلا من الجامعات المصرية التي بدأوا يتعاملون معها علي انها تنتمي الي عصور سابقة. وسقط الاتحاد السوفيتي واختفي من الساحة الدولية التي اصبحت تحت سيطرة قطب واحد ليتضاءل مع ذلك حجم الدور المصري وقيمته في المنطقة. ثم كان غزو صدام حسين للكويت عام 1990 هو نهاية للدور المصري التأثيري الحقيقي الي ان ادرك العرب ان الامور كلها تدار من واشنطن وان تحرير الكويت لاحقا ما كان ليتم لولا التدخل العسكري الامريكي..! وأتي جورج بوش ليفعل "العولمة" التي كان يتحدث عنها بيل كلينتون ويعمل علي تحقيقها، وفي ظل هذه العولمة ضاعت معالم الطريق لكثير من الدول العربية التي وجدت في الثقافة الكونية الجديدة وفي ثورة الانترنت والاتصالات عالما سحريا اوسع واكثر ملاءمة لتطلعاتها ولطموحات البعض منها في التخلص مما كانت تعتقد انه الوصاية والهيمنة المصرية. وبات واضحا ان الحديث عن ريادة وعن دور وتأثير مصري قد اصبح في تضاؤل لان سرعة تحول المجتمع المصري نحو استيعاب معطيات العصر الجديد لم تكن علي السرعة المطلوبة بفعل عوامل كثيرة ربما كان معظمها يرجع الي الامكانيات الاقتصادية والمادية، كما ان الفكر المصري الابداعي لم يكن ايضا علي المستوي المميز بحيث يصبح هناك الجديد الذي تقدمه مصر دائما، ولعبت الفضائيات التليفزيونية العربية الخاصة دورا كبيرا في تقليل الاعتماد علي القاهرة كمركز الثقل للانتشار والتأثير خاصة بعد ان اصبحت هناك محطات فضائية تليفزيونية عربية تتفوق كثيرا علي وسائل الاعلام المصرية التي بدأت تتقوقع في نطاق محلي بحت واصبحت عديمة الجدوي والتأثير في المحيط العربي. ويصبح السؤال.. هل يعني ذلك ان بوصلة التوجيه العربية قد ابتعدت نهائيا عن مصر، وان الدور المصري لم يعد محوريا، وان "الريادة" المصرية في جميع المجالات قد اصبحت من علامات الماضي..! والحقيقة ان "الريادة" لم تعد بنفس مفهومها القديم، وان "الريادة" الان تعني ان يكون لدينا نموذج اجتماعي واقتصادي وسياسي قابل للتصدير للعالم العربي، وان يكون لدينا موقع متقدم في قطار "العولمة" ومصر موقع لن يتأتي الا بقدر اسهاماتنا في صنع الحضارة الكونية واضافة الجديد اليها، وهو امر لا نعتقد انه قد اصبح قائما الان او ان من السهل تحقيقه في ظل تراكمات كثيرة من الماضي حدت كثيرا من القدرة علي التحول والتحرك وايجاد الحافز والدافع لبناء مشروع قومي مصري يكون نواة لاستيقاظ المجتمع مرة اخري واستنهاض قدراته وكفاءاته لحثهم علي العطاء والابداع. وما لم تكن لنا نهضتنا علي المستوي "المحلي" فاننا لن نستطيع ان نحرز تقدما علي المستوي الدولي، فالمحلية هي الطريق للعالمية والمحلية تعني اعادة اكتشاف مصادر القوة والتميز داخل المجتمع لتكون رصيدا حضاريا يدعم موقعنا ودورنا ومكانتنا..! والمحلية تعني ان نطلق مشروعا اصلاحيا داخليا يعيد الحيوية والامل للمجتمع المصري بحيث يكون هناك انعكاسات فكرية وفنية وادبية واجتماعية لهذا الفكر الجديد يعيد مصر كنقطة جذب ويحقق لها الريادة بسلاسة وبتلقائية وبدون خطب واناشيد واغان مازالت تعيش في جلباب الماضي..!