صاحب التصريح الشهير "بأن الفساد في المحليات وصل للركب" الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية والأمين المساعد للحزب الوطني اختتم الحياة السياسية لعام 2006 بتصريح أخطر من استعراض القوة الذي قام به طلاب الأزهر من الإخوان المسلمين حين تساءل تحت قبة البرلمان "مش عارف.. بلدنا رايحة فين..!". والتصريح مثير ومغزاه ومعناه كبير للغاية خاصة وأن صاحبه هو أحد القيادات المسئولية عن الاتجاه والطريق الذي يجب أن نسلكه بلدنا، وإذا كانت بوصلة التوجيه لا تعرف بلدنا رايحة فين فإن هذا مؤشر خطير علي أن الأمور قد خرجت عن نطاق السيطرة وأنه لم تعد هناك فائدة في شيء..! وصحيح أن التصريح المثير للدكتور زكريا عزمي كان علي خلفية قضية محددة وهي المتعلقة بالتوربيني سفاح أطفال الشوارع الذي قتل العشرات منهم إلا أن هذا لا يعني أن هذه العبارة البليغة التي أطلقها لا تنطبق ولا تتعلق بكل شيء آخر في بلدنا..! فالواقع أن السلبيات والفساد في كثير من الأمور قد تفاقم وتضخم حتي تحول إلي نظام حياة، بحيث أصبح مستحيلا مقاومته بشكل جزئي وعلي مراحل وإنما يحتاج الأمر إلي استئصال شامل وإجراء إصلاح واسع علي كل المستويات وجميع القطاعات للتخلص من القيادات المتعثرة والعاجزة عن الاندماج في منظومة الإدارة الحديثة التي تقوم علي الاستخدام والتوظيف الجيد للإمكانيات والموارد والكفاءات. فقد بات واضحا أننا نشهد تراجعا في مستوي الكفاءة والقدرة للكثير من القيادات التي يتم الدفع بها لتنفيذ مهام تتجاوز حدود إمكانياتها وخبراتها، وهي سياسة أدت إلي أن تصبح السلبيات والأخطاء واقعا يوميا في ممارساتنا وحياتنا بل وعلي العكس من ذلك فإن هذه القيادات العاجزة فكريا ومهنيا وإداريا تكمن مهارتها في تحويل الأخطاء والسلبيات والعجز والقصور إلي نجاحات وإنجازات وبرنامج عمل أيضاً، وتجد من يصفق لها ويشيد بما تقوله في تحالف مصلحي بين هؤلاء الانتهازيين وأنصاف الكفاءات ليسند كل منهم الآخر في مواجهة ما قد يتعرض له من انتقادات واعتراضات. وكانت النتيجة أن بلدنا أصبح مليئاً بالكوارث والحوادث والأشياء الغريبة التي تقع كل يوم والتي أصبحنا نتعامل معها بلا مبالاة واستهتار واستسلام عجيب لأن الذين يجب أن يتحركوا وأن ينفعلوا وجدوا أنه من الأفضل لهم ولمصالحهم امتصاص غضب الرأي العام دائما وإلهائه بإيجاد أية قضية أخري وحماية المقصرين من منطلق أن توجيه الاتهام وفتح الملفات وكشف المستور سوف يعني انهيار المنظومة كلها.. وفتح أبواب جهنم..! واستطاع هؤلاء بمهارة بدلا من شحذ الهمم والعزيمة في مشروع وطني أو قومي يخدم الأمة أن يزرعوا بدلا من ذلك حالة من الانهيار النفسي وفقدان الثقة والهوية والأمل أيضاً لدي كل قطاعات المجتمع بحيث أصبح انتصار فريق لكرة القدم في أية بطولة هو المشروع القومي الذي تحقق، وبحيث تحولت القضية إلي صراع كروي أو فني..! ولقد كان مثيرا للسخرية علي سبيل المثال أن يستضيف التليفزيون الرسمي حوارا ولقاءات تتناول اشتراك ممثل سوري في مسلسل تليفزيوني مصري وكأن ذلك اختراق للأمن القومي المصري أو كأنها أول مرة تحتضن فيها مصر فنانا عربيا.. ولكنها سياسة الإثارة والبحث عن قضايا لشغل الاهتمام العام واستمرارا لحالة التوهان التي نعيشها والتي امتدت وطالت حتي تحولت إلي إدمان..! إن الدكتور زكريا عزمي ربما كان "عفويا" في إلقائه هذا التصريح الخطير المثير، وربما لم يدر في خلده عندما أطلقه أبعاده ومعانيه، وربما كان يتحدث بذلك كنائب عن الشعب وليس كمسئول وكمشارك في صناعة القرار، ولكن هذا كله لا يعني أنه لم يفجر قنبلة عنقودية سوف تنتشر وتنشطر لتصيب في طريقها أطرافا كثيرة، فما قاله الدكتور عزمي يجب أن يكون مدخلا لحوار وطني مخلص حول مستقبل هذا البلد، حوار يتناول الانهيار الاجتماعي والأخلاقي الذي نشهده، حوار يتناول ما الذي يجب علينا أن نفعله لإعادة بناء الطبقة الوسطي، وحوار من أجل مواجهة الفوضي في كل مظاهر الحياة والاستهتار بالقانون في كل مكان.. حوار من أجل الإصلاح الحقيقي للمجتمع.. إصلاحا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا وفنيا يوقف الرجوع إلي الوراء ويدفع إلي إعادة اكتشاف أنفسنا وتفجير طاقات قادرة علي العطاء والإبداع.. وهو إصلاح ضروري لإعادة الأمل لعشرات الآلاف وللملايين من كفاءات مصر وثروتها البشرية في الداخل وفي الخارج والذين تقوقعوا علي أنفسهم يأسا من وجود أي أمل والذين شعروا أن النجاة في الابتعاد والهلاك في الاقتراب.. وهذا هو الانهيار بعينه.. وهذه دلائل انكسار المجتمع من الداخل. وهذا هو ما يفرز كل ما نجده ونلمسه الآن.. وهذا هو ما يجعلنا لا نعرف البلد دي رايحة علي فين..!! [email protected]