ناعوم شومسكي كاتب يساري أمريكي، بل ربما كان أشهر كاتب ومحلل سياسي أمريكي في السنوات العشر الماضية، وهو إضافة إلي ذلك ناشط سياسي فهو أحد المؤسسين للمنتدي الاجتماعي الدولي في بورتوا ليجري الذي يضم المنظمات غير الحكومية ويرفع شعارات ضد سيادة الرأسمالية المتوحشة كما يطالب بالديمقراطية في العلاقات الدولية. ومؤتمر بورتوا ليجري الذي يعقد سنويا يطلق عليه البعض اسم العولمة الجماهيرية تجري أحداثه في نفس الفترة التي يعقد فيها مؤتمر دافوس الاقتصادي الذي يضم القيادات الرأسمالية في العالم والقيادات الاقتصادية للشركات المتعددة الجنسيات ويحرص الرئيس الأمريكي علي حضوره سنويا فهو يمثل المؤسسة الرأسمالية العالمية. وشومسكي أستاذ الفلسفة في جامعة ماسوشيتس ومؤسسة التكنولوجيا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، هو الوجه الآخر للمجتمع الأمريكي، وهو في حرب متصلة مع سياسات الرئيس بوش والمحافظين الجدد الذين استولوا علي البيت الأبيض علي حد تعبيره وشن عليهم حملة فكرية وسياسية كاشفة وفاضحة، وهو يعتبر امتدادا لمجموعة من الكتاب والمفكرين الأمريكيين الذين وقفوا في مواجهة اتجاهات الهيمنة والسيطرة الأمريكية وساندوا حقوق شعوب العالم الثالث ودافعوا عن الديمقراطية في العلاقات الدولية من أمثال البرفسور كثبث جالريث والمؤرخ جون كنيدي والكتاب الكبار من أمثال آرثر ميللر وجو فيدال. وقد أصدر تسومسكي عددا من الكتب والدراسات المهمة التي تفضح السياسات الأمريكية المعاصرة وآخر كتاب صدر له من فترة قريبة كان تحت عنوان "سوء استخدام السلطة والعدوان علي الديمقراطية" وفي هذا الكتاب تناول المفكر الأمريكي بالتحليل ظاهرة انتشار النظم اليسارية في السنوات الأخيرة في أمريكا اللاتينية، والشكل أو البرنامج البديل الذي تقدمه هذه الأنظمة والذي يمثل تحديا للسياسات الأمريكية المعاصرة. ويعلن شومسكي انه بعد خمسة قرون من الاحتلال الأوروبي والأمريكي تعلن أمريكا اللاتينية عن استقلالها الحقيقي، وقد كانت فترات الاضطهاد والاستغلال الطويلة التي تعرضت لها شعوب أمريكا اللاتينية وراء هذا الاتجاه القوي والأصيل في الاستقلال وإقامة أنظمة جديدة كما ولدت اشعاعا ديمقراطيا مختلفا وحركة جماهيرية يمينية تسعي إلي التغيير الجذري ولم تشهدها القارة الجنوبية منذ أن وطأت أقدام كرستوفر كولمبوس هذه الأرض. ويحدد ناعوم شومسكي أشكال هذه التغيرات الجديدة ويقول إنها تقدم شكلا ومحتوي جديدا لمفهوم الديمقراطية يمكن ان نطلق عليه اسم الديمقراطية الشعبية وهو يختلف عن الشكل الديمقراطي المطبق في أمريكا الشمالية لأنه يقوم علي أساس المشاركة الشعبية الفعالة والواسعة وليس فقط الاكتفاء بالمؤسسات الديمقراطية التقليدية التي تضم النخب والشرائح الاجتماعية المعنية والمحددة والتي غالبا ما تتعاون مع قوي السيطرة والهيمنة الأجنبية. وقد ارتبط هذا الشكل الديمقراطي الشعبي بمواجهة حزمة الإصلاحات الاقتصادية المصدرة من الخارج والتي اطلق عليها اصلاحات المواءمة، بينما هي تحطم في نفس الوقت الديمقراطية الحقيقية. تلك التوليفة الإصلاحية التي يقدمها البنك الدولي والتي شملت كثيرا من قدرات الدولة القومية أو بمعني آخر من مقومات الاستقلال السياسي والاقتصادي الأمر الذي ألحق الضرر في النهاية بالتطور في البلدان التي طبقت هذه الإصلاحات، خاصة وقد اثبتت التجربة التاريخية ان النقص في السيادة يؤدي في النهاية إلي تحقيق مصالح القوي الكبري في فرض نظامها السياسي والاجتماعي. ولتأكيد تلك الفكرة قام شومسكي بإجراء مقارنة بين الانتخابات الرئاسية التي جرت في اغني وأقوي بلد في العالم الولاياتالمتحدةالأمريكية وتلك التي جرت في واحدة من أفقر دول العالم في أمريكا اللاتينية. ففي انتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2004 كان علي الناخب الأمريكي ان يختار بين اثنين من المرشحين من أبناء الطبقات والعائلات الارستقراطية الذين غرقوا في الثروة وتمتعوا بامتيازات خاصة، بل ودرسوا في جامعات النخبة وتدربوا علي كيفية الحكم والسيطرة تساندهم شرائح اجتماعية من نفس الفصيلة التي تملك الثروة والحكم، كما كانت برامج الاثنين متشابهة إلي حد كبير رغم ان أحدهما ينتمي للحزب الديمقراطي والآخر للحزب الجمهوري. وعلي الضفة الأخري، جرت الانتخابات الرئاسية في واحدة من أفقر دول العالم في أمريكا اللاتينية بوليفيا في ديسمبر ،2005 وانتخبت الجماهير بأغلبية كاسحة إيفو موراليس لأنهم أحسوا انه مثلهم يعاني من نفس المشكلات التي يعانون منها ويطالب بالعدالة والسيطرة القومية علي مصادر الطاقة والموارد الأخري ويدافع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحق الأرض والمياه، لذلك اكتسح موراليس حيث اختار الناس واحدا منهم وليس المرشح الآخر الذي يمثل المجموعات والشرائح التي تتمتع بالامتيازات وتخدم مصالح رأس المال. ثم يقدم ناعوم شومسكي بعد ذلك مقارنة أخري في مجال آخر بين النمو والتطور الذي يجري في أمريكا اللاتينية والنمو والتطور في شرق آسيا مؤكدا ان منطلقات النمو والتقدم في المنطقتين تعتمد علي أسس مشتركة وهي الاهتمام بالتعليم الذي هو صناعة عقل المنتج، والصحة التي تقي الحفاظ علي قدرة المنتج وتقديم المزيد من الخدمات الاجتماعية والثقافية للقطاعات الواسعة من الجماهير ليس من قبيل الرحمة والشفقة بل من قبيل الاستثمار الحقيقي في البشر باعتبار ان العنصر البشري يمثل أكثر من 75% من عناصر التنمية الشاملة في أي مجتمع. وثم سمة مشتركة أخري بين المنطقتين تتمثل في الإشراف القوي والفعال من جانب الدولة بالرغم من ان أسواق أمريكا اللاتينية كانت أكثر انفتاحا للاستثمارات الأجنبية عن شرق آسيا. وهناك ملمح آخر للتطور الجديد في أمريكا اللاتينية وفقا لنظريات ناعوم شومسكي وهي ان النظم الديمقراطية الشعبية التي بدأت ترسي قواعدها في أمريكا اللاتينية تضع برامج للنمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يختلف عن البرامج التي كانت تطبق منذ أيام الغزو الإسباني ثم الأمريكي الشمالي ذلك النمط التقليدي السائد في البلدان الرأسمالية والذي يقوم علي أساس الاعتماد علي مجموعة من النخب المميزة المرتبطة بالقوي الخارجية المسيطرة ولم تكن تلك النخب مهتمة بتنمية العلاقات الاقتصادية فيما بينها. ومن الطبيعي ان هذا التطور لا يروق للسادة في واشنطن ولا يصيب في طاحونتهم لأنهم تعودوا ان ينظروا إلي أمريكا اللاتينية باعتبارها فناءهم الداخلي والقاعدة المضمونة التي تقدم لهم أفضل الموارد والأسواق والاستثمارات المريحة. ويتساءل ناعوم شومسكي كخبير استراتيجي في أسس التنمية انه إذا كانت أمريكا اللاتينية قد خرجت بالفعل من سيطرة وهيمنة الولاياتالمتحدة والتي كانت تعتبرها مجالها الحيوي فكيف يمكن للولايات المتحدة مواجهة التحديات الكبيرة التي تقف أمامها في مناطق أخري كثيرة من العالم خاصة في الشرق الأوسط. ونحن نضيف إلي تساؤلات شومسكي تساؤلا من جانبنا لماذا يزداد النفوذ الأمريكي بقواته العسكرية ومصالحه الاقتصادية في بلدان الشرق الأوسط التي تبعد آلاف الكيلو مترات عن الولاياتالمتحدة، بينما يتضاءل نفوذها وتأثيرها في فنائها الداخلي في أمريكا اللاتينية؟.. سؤال ساذج ليس له أية ابعاد أو اسقاطات.