كانت تلك المرة الاولي التي أري فيها والدي يبكي بحرقة، اعرف انه شديد التأثر ودموعه قريبة، لكني لم استمع اليه ينتحب مثلما كان يفعل في يوم 28 سبتمبر عام 1970 وقد ظننت وقتها ان جدي هو الذي توفي وربما فكرت علي ذلك النحو لاني احب جدي حبا كبيرا واخاف من فقده، لكن بمجرد ان تسلقت الكرسي لاجلس علي رجلي والدي كما تعودت في ذلك السن الصغير ان افعل.. كانت اذاعة صوت العرب تبث تفاصيل خبر وفاة الرئيس عبدالناصر، وكان صوت كروان الاذاعة احمد سعيد حزينا وهو ينقل مشاهد الجنازة وعندما تختنق العبرات في صوته وتنحبس الكلمات علي شفتيه يأخذ الميكروفون منه جلال معوض ليصف كيف ان الشيخ محمد الفحام شيخ الجامع الازهر قد أمَّ صلاة الجنازة علي زعيم الأمة العربية.. ولم يكن لأي واحد من هذه الشخصيات والرموز اي دلالة لدي، ولكني ادركت باحساس الطفولة ان هؤلاء شخصيات مهمة وانهم قيمة كبيرة، كما ادركت ان عبدالناصر الذي مات ويبكيه ابي بهذه الحرقة له مكانة مرموقة وعزيزة علي والدي وهو قد يكون في مكانة جدي مثلا وانتقل الي ذلك الاحساس بهذه الاهمية، ومما زاد في اهتمامي بهذا المتوفي تلك المناحة التي اصبح عليها بيتنا حيث امتلأ فجأة باخوالي وخالاتي وهم في سن الشباب في تلك الاثناء وزارنا ايضا عدد من الجيران والتف الجميع حول الراديو وانتقلت عدوي البكاء والنحيب، الكل يبكي عبدالناصر وكأنهم فقدوا فردا من افراد الاسرة، وكان يبدو علي والدي الحزن الدفين وعيناه تقولان اننا انتهينا.. وان الاحلام توقفت باختفاء عبدالناصر، وكان يردد وهو يبكي: لمن تركنا الزعيم؟! واخذت امسح دموعه ومالفت نظري اننا تبادلنا الادوار في تلك اللحظات فهو الذي اعتاد ان يجفف دموعي ويربت علي كتفي ويهدئ من روعي عندما يضايقني شيء او اتخاصم مع اخواني من الذكور وهم يكبروني سنا، ودائما لعبهم قاس، ومعاملتهم جافة، وكان والدي يتولي فض تلك الاشتباكات، لكن هذه المرة قمت وانا التي لم أكمل عامي السادس، بتهدئة والدي والتخفيف عنه، واخذت انهر بحزم اصدقاءه واحثهم علي عدم البكاء، والتحلي بالصبر! تلك التفاصيل التي ظلت محفورة في ذاكرتي استحضرتها وانا أهم بالاجابة علي سؤال لاحدي زميلاتي الشابات، عندما سألتني عن سر حبي وتعلقي بالزعيم الراحل عبدالناصر، وسبب حرصي علي زيارة قبره ومقامه وقراءة الفاتحة علي روحه في جامعه بالقبة. ربما الاجابة البسيطة التي قلتها.. ان شخصا يبكيه كل هؤلاء.. ويتعلق به مواطن عربي من جنوبتونس هو والدي، ويبتعد عنه آلاف الاميال لكنه كان قريبا لدرجة غير متوقعة لكل نفس فقد كسر الحواجز والحدود واحتل حبه القلوب وتجاوز تعلق الناس به حدود بلاده الي بلدان عربية اخري.. من المؤكد انه جدير بهذه المحبة. قد تكون تلك الكلمات بسيطة ولا تحلل مضامين ومفاهيم سياسية ولا تضع في الميزان شخصية من هذا النوع ..بانجازاتها وانتكاساتها.. قد يكون كل ذلك صحيحا، لكن كلمة الحب الصادق كانت تبدو كافية لي.. لاني أبحث هذه الأيام عن حب الشعوب لزعمائها.. بل لأوطانها فلا أجد إلا القليل.. فأقول رحمك الله يا عبدالناصر.