بدأ العراقيون صيام شهر رمضان هذا العام علي ثلاث دفعات.. فريق منهم بدأ الصيام يوم السبت الماضي وفريق اَخر يوم الأحد.. وفريق ثالث في اليوم التالي وهو الاثنين.. وهكذا بدأ صوم العراقيين في ثلاثة أيام مختلفة، في اليوم الأول صام العراقيون السنة.. وفي اليوم التالي صام العراقيون الشيعة الذين لا يتبعون المرجع الشيعي السيستاني.. وفي اليوم الثالث صام أتباعه. ويعكس هذا الموقف حالة التشرذم التي يعيش فيها العراقيون في ظل نمو الطائفية وطغيانها تدريجيا علي الحس القومي للعراقيين.. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخري يعكس هذا الموقف غياب سلطة الدولة المدنية التي تتولي إدارة البلاد ويخضع لسلطانها الشعب بجميع طوائفه وفرقه وطبقاته. ويؤكد الموقف أيضا أن غياب الدولة المدنية كارثة بكل المقاييس نظرا لاختلاف القادة الدينيين حول كثير من التفاصيل بزعم أن وجهة نظر أي منهم هي المطابقة للشرع وأن الاَخرين لا يمثلون مقصد الشرع الحقيقي. وهنا تكمن محنة العالم الإسلامي الحقيقية.. فحين يختلف معك الاَخر في وجهة نظرك أو في سلوك معين تنتهجه يكون هناك تكافؤ في الاختلاف ويلجأ المختلفون عادة إلي المنطق أو الجدل أو الوسطاء أو ما شئت من أساليب فض المنازعات.. ولكن حين يقول لك مناظرك إنه هو الشرع، أي إن وجهة نظره هي المطابقة للشرع فعليك إذن أن تنصاع له وإلا تعتبر خارجا عن الشرع. وبالعودة إلي مسألة بدء الصيام في البلد الواحد في أيام مختلفة فإن ذلك بالقطع لا يعود إلي وجود ثلاث بدايات للشهر الكريم فالبداية واحدة ولاشك ولكن المسألة تتعلق برؤية الهلال عند البعض وليس بميلاده وثبوته في الأفق لعدة دقائق بعد غروب شمس اليوم الأخير من الشهر السابق. البعض يري أن الرؤية يجب أن تكون مجردة وأن العبرة بالصيام عند الرؤية عملا بالحديث الشريف في فهم حرفي للنص يصرف الصيام إلي الرؤية وليس إلي ثبوت بدء الشهر.. وبتعبير اَخر يفصل البعض بين الرؤية وبدء الشهر أو الميلاد الحقيقي للهلال فقد يولد الهلال ولكن تتعذر الرؤية، وهكذا يعتبرون أن الشهر لم يولد بعد بصرف النظر عن أي وسيلة أخري للإثبات. وفي هذا المثال نجد أن الشرع ثابت فهو يحث الناس ويأمرهم ببدء الصوم عند بداية شهر رمضان ولكن وسيلة الإثبات هي المختلف عليها بناء علي فهم الناس للنص الشرعي وطريقة تفسيرهم ورؤيتهم العقلية البحتة لكيفية هذا الفهم وتصورهم لمدي اتساع النص أو خصوصيته وما هو المقصود من ألفاظه. الشرع إذن ليس مسئولا عن عدم قدرة المسلمين علي فهمه علي نحو صحيح، والشرع ليس مسئولا عن تشنج البعض ورفضهم توسيع نطاق الفهم أو تناول النصوص بمنهج فهم عصري يتسق مع تطور الحياة، ولذلك يجد المسلمون أنفسهم حياري ومختلفين مع أنفسهم قبل الاَخرين.