صفقات البيع والشراء تحدث كل يوم.. وتجري دون أن يشعر بها احد سوي الأطراف المباشرة ، أي البائع والمشتري والوسطاء المحامين ومكاتب التقييم. وينطبق هذا علي تلك الصفقات التي تجري في اطار "الخصخصة" أيضا . صحيح ان بعض تلك الصفقات الأخيرة أثارت جدلا في أوساط الرأي العام والمهتمين ، ولكن هذا الجدل كان يتركز بالدرجة الاولي علي الجدوي من بيع هذه الشركة أو تلك من شركات قطاع الأعمال العام ، وما اذا كان السعر مناسبا أم أن الحكومة كان يجب أن تضغط من أجل الحصول علي سعر أفضل، وهل كان الأفضل البيع لمستثمر رئيسي أم لا ، وهل يكون هذا المستثمر مصريا أم أجنبيا ، بيد أن الجدل الذي أثارته صفقة البنك المصري الأمريكي لم يسبق له مثيل. والواضح أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا الجدل الساخن، والواسع النطاق، هو أن هناك وزيرين حاليين كانا من بين أصحاب الشركة المشترية. الوزيران هما محمد لطفي منصور وزير النقل وأحمد المغربي وزير الإسكان. ورغم أن علاقتهما بشركة "المنصور والمغربي" قد انقطعت من الناحية القانونية عقب دخولهما الوزارة، فإن هناك من رأي أن هذا الانقطاع في العلاقة من الناحية القانونية لا يكفي. كما أن هناك من أطلق سحباً كثيفة من التشكيك في الصفقة بأسرها. وربما لم تتعرض صفقة أخري لمثل ما تعرضت له هذه الصفقة من أخذ ورد، وتسليط للأضواء، وتناول علني لأدق التفاصيل. كما أن شركة "المنصور والمغربي" لم تتذرع بالصمت، بل شاركت من خلال رئيسها ياسين منصور في هذا الجدل الساخن وقدمت بيانات وأرقاماً ووقائع كثيرة للرد علي التساؤلات المثارة والشكوك المعلقة في الهواء. وهذه مسألة تحسب لها. لكن هذا لم يخفف من حدة الجدل الذي انتقل من صفحات الجرائد - علي اختلاف نوعياتها - إلي شاشات الفضائيات المصرية والعربية. ومازال دائرا.. ولا نعتقد انه سينتهي سريعا. وليس هذا راجعا - في رأيي - الي تفاصيل الصفقة ذاتها، بقدر ما هو راجع الي العلاقة التي ربطت وزيرين في الحكومة بالشركة المشترية. هذه العلاقة تثير حساسية شديدة لدي الكثيرين، رغم ان قسما لا بأس به من هؤلاء يكنون احتراما كبيرا للوزيرين، المغربي ومنصور، ويمتدحون مواقفهما، ويشيدون بالتزامهما الاخلاقي، وينزهونهما عن شبهة استغلال منصبيهما الوزاري لتحقيق مصالح شخصية. كما ان بعض هؤلاء المشاركين في هذا الجدل وتلك الانتقادات يرون ان الصفقة جيدة وانه لاغبار عليها. فلماذا الانتقاد إذن؟! الانتقاد سببه اشمل من هذه الحالة الخاصة للوزيرين المغربي ومنصور، واشمل من هذه الصفقة بالذات المتعلقة بالبنك المصري الامريكي. هذا السبب الاشمل والاعم هو غياب "آلية" عامة و"قواعد" معتمدة للتعامل مع مثل هذه الامور. وهذا الغياب لتلك "الآلية" المقصودة بهذا الصدد، هو جزء من غياب اشمل للعديد من الآليات التي لا غني عنها لاقتصاد السوق حتي لا يتحول إلي غابة. فالحكومات المتعاقبة عندما قررت الاخذ باقتصاد السوق تحمست لترويج الليبرالية في مجال الاقتصاد، وادارت ظهرها لليبرالية في مجال السياسة مع ان تلازم الاثنين ضروري! حتي الآليات الاساسية لاقتصاد السوق تم التعامل معها بصورة انتقائية.. حيث اخذت الحكومات المتعاقبة ايضا بالآليات التي تشجع الاستثمار، وهذا حسن، لكنها اغمضت اعينها عن الآليات التي لا تجعل هذا الاستثمار "سداح مداح" علي حد تعبير استاذنا الكاتب الكبير احمد بهاء الدين رحمه الله، ومنها علي سبيل المثال قوانين منع الممارسات الاحتكارية، وقوانين حماية المنافسة، وقوانين حماية المستهلك. وها هي حكومة الدكتور أحمد نظيف الاولي قد فتحت ابوابها امام اثنين من رجال الاعمال لتولي حقائب وزارية، ثم جاءت حكومته الثانية لتزيد هذا العدد ليصبح ستة وزراء يحملون لقب "رجل أعمال". وهذا أمر ليس معيبا في حد ذاته، بل ربما تكون له ايجابياته من عدد من الزوايا. لكن العيب هو ان هذا الاتجاه لم تصاحبه صياغة وبلورة آليات تتعامل مع الاشكاليات المصاحبة بخاصة فيما يتعلق بالحدود الفاصلة بين المال والسياسة. ولا يكفي بهذا الصدد التعويل علي السمعة الطيبة لرجال الاعمال الذين تم توزيرهم. كما لا يكفي التعويل علي ان "اعينهم مليانة" - علي حد قول المثل الشعبي. بل يجب ان تكون هناك "قواعد قانونية" تنظم الامور. وقد سألت الدكتور احمد نظيف عن ذلك في لقائه معنا في مطلع هذا العام فقال ان ذلك يتحقق عن طريق انهاء الوزير القادم من القطاع الخاص علاقته ب"البيزنس" الخاص به، وتنازله عن ادارته لشخص آخر، ثم اقرار الذمة المالية قبل تولي الوزارة وبعد تركه لها.. واضاف انه في حالة وجود تداخل بين السياسات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة وبين المجالات التي توجد فيها استثمارات الوزراء رجال الاعمال فان الامر يرفع الي مجلس الوزراء.