مثل لاعب شد حبل متشبث بالأرض وعنيد.. ووسط الألوف من رجال البحرية في زيهم الأزرق كعمق المحيط، هتف جورج بوش وكأنه يقود الجمع في مظاهرة عسكرية: "هذا عهدي إليكم: أمريكا لن تجري هربا من قادة السيارات المفخخة وغيرهم من القتلة في العراق ما دمت القائد الأعلي للقوات".. اهتزت بالتصفيق ارجاء القاعة الرياضية لأكاديمية أنا بوليس البحرية.. انتشي بوش حتي انتفخت أوداجه، وواصل "سوف يحين وقت لعودة قواتنا إلي أحضان وطن يفخر بهم.. لكن لن يتم ذلك طبقا لجدول زمني مصطنع، يضعه الساسة في واشنطن"! ... هل فتح بوش بهذه العبارات النارية بوابة الانسحاب الاستراتيجي من العراق؟ أو أنه اغلقها بضبة "شرط واقف"؟! حصلت علي نص خطابه بالكامل.. 36 صفحة فولسكاب.. ورحت أحفر بين السطور وأنقب.. لاحظت من منطق سياق الخطاب وتركيبته أن بوش يعبر باستعلال وغموض عن رغبته في الرحيل عسكريا عن العراق، إنما: طبقا لشروطه.. وبيده لا بيد عمرو! قرأت تاليا في مجلة تايم همسات لمستشاريه تفصح.. "لقد تعمد أن يجيء الانسحاب وفقاً لقاعدة مبدئية، وقرار ارادي مدروس ومتأني فيه - deliberate - وليس فقط نتيجة ضغوط قياسات الرأي العام المتدهورة، أو دبابيس الحزب الديمقراطي الأليمة"! قبل أيام من خطاب بوش الذي غلفوه بعنوان رنان: "الاستراتيجية القومية للنصر في العراق".. أدلي وزير الدفاع دونالد رمسفيلد بتصريح مقتضب لكنه يكشف اتجاه الريح "ان الاستسلام - quitting - ليس استراتيجية خروج"! والبادي أن رمسفيلد وكوندوليزارايس ومعاونيهما يتفرغون تماما الآن لوضع خطة الانسحاب من العراق بالتدريج الشديد، قبل ان تحين انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، في نوفمبر العام القادم! ونقلب سطور خطاب بوش الفضفاض، وما بين السطور. قبل أسبوعين كان بوش يرتحل بين دول آسيا.. وفي كل عاصمة كانوا يسلقونه بأسئلة محرجة حول الشأن العراقي.. وتجيء اجاباته، كما وصفتها النيويورك تايمز باردة ومرتجلة off the cuff كان واضحا من ضعف أجوبته ان المطبخ السياسي والعسكري لم ينته بعد من اعداد خطابه حول العراق.. ثم جاء خطابه الشامل في أكاديمية أنا بوليس البحرية ليضيء الموقف مثل قنابل الوهج الفوسفورية بثلاثيته: العسكرية، السياسية، والاقتصادية.. وهو خطابه الأول، تتلوه 3 أخري تسبق انتخابات الحكومة العراقية الجديدة نهار الخميس 15 ديسمبر.. لاحظ درجة التيقظ للحدث والاحتشاد! وفي صدر خطابه حرص بوش علي أن يكشف عوار الاقتصاد العراقي، وكيف انه مثقل بالاعانات والدعم المجاني للوقود والطعام، ولزوم اصطناع شعبية زائفة لصدام والنظام.. وربما لتبريد لقمة سائغة للشركات الأمريكية لتلغ في الاقتصاد العراقي "ومحروقاته" ما شاء لها النهب والهوي! الرئيس جورج تشيرشل امتلك بوش في خطابه - لأول مرة - شجاعة النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ.. من ذلك قوله: "اخطأنا الحساب في تقويمنا المبكر للمقاومة.. وكيف يمكن أن تتطور بسرعة ويتعاظم خطرها"! واعترافه: "في بواكير أيام الغزو فكرنا في إعادة تشكيل جيش عراقي جديد يحمي البلد ضد المخاطر الخارجية.. وقوات دفاع مدني لقمع الاضطرابات داخل الحدود.. لكن قوات الدفاع لم تنجح في تدريبات انتاج النيران الكافية لمواجهة عدد مسلح بمدافع الماكينة والمورتار والقاذفات الصاروخية للقنابل اليدوية.. وكان لابد من تعديل التشكيل"! لكن اعتراف بوش باخطاء الحرب في العراق لم يصل إلي أعتاب المكاشفة الجسيمة.. يقول أحد كبار مساعديه للنيويورك تايمز: "أخطاء مثل حل الكيان البعثي، وتسريح الجيش العراقي، وعزل رموز طائفة السنة الذين لم يتعاونوا مع صدام.. كلها أخطاء فادحة حشدت صفوف المقاومة وعظمت نيرانها"! وامتلأ خطاب بوش بعبارات الثبات الظاهر والرسوخ steadfastness المنقطة بنبرة تفاؤل، والتلميح المفعم بأن الانسحاب من العراق قد يبدأ العام القادم.. ثم يرتفع قرار صوته وهو يقول: "لن ننهار.. ولن نستسلم.. ولن نقبل بشيء أقل من النصر الكامل".. وهي تراديد لعبارات ونستون تشرشل إبان الحزب العالمية الثانية ربما ذكره بها التمثال النصفي لرئيس حكومة بريطانيا الذي يزين مع غيره مدفأة المكتب البيضاوي! لم يفصح بوش في خطابه عن أي مدي لبقاء القوات الأمريكية في العراق بأية صورة أو نحو.. بعض معاونيه يشير إلي كوريا الجنوبية والبلقان وألمانيا.. حيث تعشش القوات الأمريكية في قواعدها هناك منذ عقود، رغم انتهاء الصراع.. الأمر الذي يؤكد عمق الهدف الاستراتيجي لحرب العراق، الذي يفوق عمق آبار بتروله! ............................ لكل فعل رد فعل، مساو له في القوة ومضاد في الاتجاه.. طبق الديمقراطيون هذا القانون الطبيعي كما جاء في الكتب.. قالوا: ان حديث خطة النصر plan for victory هو رجع الصدي لخطاب بوش: المهمة انجزت mission accomplished من علي ظهر حاملة الطائرات، في مايو 2003.. مجرد علاقات عامة!