في وجداني ركن ضعف شديد نحو أفغانستان! زرتها ثلاث مرات وهي مشتعلة بنار الجهاد وتابعت المجاهدين في جهادهم المتقلب ضد السوفييت وضد أنفسهم.. احدي زياراتي صيف العام ،1988 نظمها لي الصديق الشيخ صبغة الله مجددي رئيس الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان وأول رئيس للدولة في أعقاب انسحاب السوفييت.. قضيت مع أحمد شاه مسعود - أسد بانجشير الراحل - ثلاثة أيام يتنقل في قفزات ضفدع بين كهوف قمم جبال وادي "الأسود الخمسة".. تطاردنا الهليكوبتر السوفييتية المصفحة طراز (MIL24) بمدفعيتها الثقيلة من كهف لكهف.. كان المجاهدون يسمونها سفينة المدفعية (gunship) والبعض كان يسميها "عربة الشيطان" وعربة الشيطان دروعها ثقيلة مثل دروع دبابة، لكنها تطير.. انتجها السوفييت خصيصا للتعامل مع مرابض المجاهدين في كهوف قمم جبال أفغانستان التي تطاول السماء، وتعجز القاذفات النفاثة عن التعامل معها! شاهدت المعركة الكبري بين 20 ألفا من القوات السوفييتية و15 ألفاً من قوات أحمد شاه مسعود.. تلك المعركة التي رسمت خط النهاية للنفوذ والسوفييتي في أفغانستان.. في أعقابها بدأت موسكو تنفيذ خطة سرية للانسحاب الشامل! ....................... غابات أشجار الصنوبر قرب قمة أحد جبال أفغانستان، الشهر الماضي.. أحد الرعاة الافغان يجتاز الغابة صاعدا، وسط عصف الريح وطقطقة فروع الشجر.. الراعي "غلاب" يتحسس بعينيه طريقه الصاعد، لفرط دهشته يرتطم بصره بجندي أمريكي ممدد، ساقاه وكتفاه تنزف حتي ابتلت سترته يفيض من الدم، يقول غلاب: "ظنني الجندي أحد أتباع طالبان فصوب بندقيته ملء وجهيي.. واصبعه علي الزناد! تذكرغلاب ما سمعه ذات مرة عن أن الأمريكي إن رفع ابهام يده، هذه لفتة صديق.. فعلها.. وزاد بأن رفع أطراف سترته ليؤكد أنه لا يخبئ للغدر سلاحا.. ابتسم الجندي وتنهد بزفرة اطمئنان رفعه غلاب وسانده بين أحضانه وهما ينزلان سفح الجبل المنحدر كتلة بشرية ملتحمة، حتي وصلا إلي قرية "ساباري - ميناه" بأسقفها الخشبية، وجدران الطوب اللبني، وأهلها الذين يكرمون الضيف! ما لم يكن يدريه غلاب أن الجريح الأمريكي الذي أنقذه ضابط كوماندوز ضمن فريق فقمة البحرية الشهير (Navy Sea!) كان يقوم بالاستطلاع في شمال أفغانستان، عندما وقعوا في كمين محكم نصبه لهم مقاتلو طالبان، وأعلنت قيادتهم أنهم مفقودون! لكنها أرسلت وراءهم مجموعة انقاذ حملتهم طائرة هليكوبتر طراز تشينوك الضخم ضمن مجموعة من 16 من جنود الخدمات.. إلا أن الطائرة أسقطت مع غروب الثلاثاء 28 يونيو الماضي فوق أدغال اقليم كونار.. ومات كل ركابها في أكبر ضربة للقوات الأمريكية في أفغانستان منذ بدأ الغزو! عثروا علي جثتين لاثنين من جنود فقمة البحرية وواحد سجلوا اسمه في قائمة المفقودين بينما قالت طالبان إنهم أسروه وقطعوا رقبته! لا حس.. ولا خبر! الاشتباكات العنيفة لقوات طالبان في اقليم كونار حيث ينتشر 15 ألفا من القوات الأمريكية تعكس تصاعدا رهيبا للمقاومة الأفغانية، قبل شهور قليلة فقط، أعلنت قيادة القوات الأمريكية والمسئولون الأفغان ان طالبان أصبحت قوة مشرذمة لاحول لها ولا طول (spent force)! إلا أن مسئولا عسكريا في كابول يعيد الآن تقدير الموقف العسكري.. بكلماته: "المؤكد أن طالبان عادت إلي الساحة بقوة يناصرها حلفاؤها في تنظيم القاعدة.. جاءوا بعناصر مسلحة جديدة عالية التدريب.. وتسليح حديث.. وقدرات متطورة لصناعة القنابل والمتفجرات وفدت إليهم من جماعات المقاومة المسلحة في العراق!. التقي الجمعان.. مجموعة الكوماندوز الأمريكية "فقمة البحرية"، وقوات طالبان في مرتفعات اقليم كونار... وقبل آخر ضوء نهار الثلاثاء 25 يونيو الماضي، أرسل الكوماندوز رسالة تحذير مشفرة إلي غرفة العمليات في كابول: "القوات في اشتباك".. ثم صمتت الأجهزة تماما.. بدا واضحا أن المجموعة في مأزق عسكري صدرت الأوامر لطائرة تشينوك (mh-47) تحمل 16 من فرقة العمليات الجوية الخاصة، بالتحرك لنجدة قوة الكوماندوز التي وقعت في مصيدة طالبان وفقدت الحس والخبر! .. الناجي الوحيد من مجموعة الكوماندوز يروي لرؤسائه في تقرير سري وصفا للموقف "هاجمتنا مجموعة كبيرة من مقاتلي طالبان أمطرونا بالقنابل اليدوية الصاروخية وقذائف المورتار، ووابل من الأسلحة الرشاشة.. اقتربت الطائرة التشينوك بمجموعة الانقاذ.. تصدت لها مجموعة القنابل اليدوية الصاروخية.. أسقطوها علي الفور"! .. ضابط رفيع الرتبة بالقيادة الأمريكية في كابول يعلق: "كانت ضربة شديدة الحظ، بالغة التوفيق التي اسقطت الطائرة التشينك أرضا!".. تعليق صحيح ودقيق القنابل اليدوية الصاروخية - أصلا - سلاح ضد المشاة والمدرعات.. وليست سلاحا جويا!! كلها أمارات فشل! لم يبق من مجموعة كوماندوز "فقمة المارين" غير اثنين.. طاردتهما قوات طالبان قتلت احدهما وانفجرت قذيفة مورتار بجوار الثاني، أصيب بجراح وأغمي عليه.. عندما أفاق بدأ يصعد الجبل زحفا مثقلا بآلام جراحه توقف للراحة لحظات قصيرة عندها تعثر في رؤيته الراعي الأفغاني: غلاب! أهل قرية ساباري ميناه من الباشتون ومن عقائد قبائل الباشتون الراسخة عبر اعراف العصور: عقيدة "ميلماسيتا".. أي: الكرم.. لكل الضيوف! وهم لهذا لا يرفضون ملاذا لغريب.. يقول غلاب مدققا موقفه: "فهم الأمريكيون أننا حاولنا انقاذ الجريح.. الصحيح أننا استضفناه بكرمنا"! أرسلت طالبان رسالة إلي شيخ القرية: "نريد تسليم هذا الخائن!".. رد كبير عقال القرية باصالة نادرة: "الأمريكي ضيفنا.. ولن نسلمه لكم ما بقي في قريتنا حي يتنفس"! مع أول ضوء للصباح، انطلق غلاب إلي القيادة الأمريكية في مدينة أسد أباد.. أبلغهم خبر الجريح جاءوا وتسلموه وبادر غلاب وامرأته وأطفاله بمغادرة قرية ساباري مياه قبل أن تطاله قبضة طالبان! انشغلت طالبان بمزيد من المعارك ضد الأمريكان وهم يخططون من الآن لتخريب انتخابات سبتمبر التي يحرص الرئيس قرضاي علي اتمامها ليطلي حكمه بفرشاة الديموقراطية! بينما يقول الكولونيل دون ماكجرو مدير العمليات للقوات في كابول بنبرة تهكم: "في أجواء التشوش العسكري في أفغانستان لم نعد نعرف بالضبط طبيعة عمل طالبان: هل هم محاربون؟ أم مهربو أفيون؟!". ........................... إن بزوغ قوة طالبان والقاعدة توءمين متآزرين مرة أخري في أفغانستان.. وظهور التنظيمات الاسلامية بتفجيراتها في محطات السكة الحديد في لندن ومدريد.. وربما قعقعتها داخل الولاياتالمتحدة، كما هو الحدس الأكيد.. كلها امارات فشل لحرب بوش المنحرفة ضد ما يسميه الارهاب.. هذه الحرب الكاذبة التي أقحمت "ارهاب الدولة" سلاحا فاسدا ضد "ارهاب التنظيم".. وتجاهلت علاج أسباب الارهاب السياسية والاقتصادية التي تبنته انباتا.. حتما سوف تورث كوكب الأرض الخراب واليبان.