لاشك أن مشهد الرئيس السوداني حسن البشير وهو يصافح نائبه جون جارانج ويحتضنه بعد أن أقسم اليمين الدستورية كنائب أول للرئيس السوداني هو مشهد تاريخي ظل مفتقدا في السودان قرابة ربع قرن. ولا أحد أكثر من المصريين يسعدهم هذا الاتفاق الذي أوقف نزيف الدماء وحروب الاستنزاف المتصلة للشعب السوداني بين الشمال والجنوب فالمصريون تربطهم بالسودان وبالشعب السوداني وشائج وعلاقات أكثر وأعمق من مجرد الحديث عن القومية واللغة والتاريخ المشترك لتجاوز ذلك كله إلي وحدة وادي النيل، وحدة النهر الذي يمثل شريان الحياة الرئيسي وحدة الحياة المشتركة. ولاشك أن هناك مصلحة مؤكدة في محاولة اختراق مظاهر الفرحة والسعادة البادية علي الوجوه في الخرطوم للوصول إلي الحقيقة وتلمسها، وهل الأمر لا يعدو مثلما يذهب البعض أن يكون مجرد هدنة مؤقتة تحمل في طياتها عوامل الانفجار الوشيك او اللاحق، أم أن الأمر يعني بالفعل وضع الأسس والخطوط العريضة لبناء سودان جديد. سودان ديمقراطي موحد يحكمه دستور علماني يساوي بين السكان في الشمال والجنوب بين المسلمين من أصل عربي والمسلمين من أصل افريقي وبينهما وبين المسيحيين السودانيين وغير المسيحيين في الجنوب، بسودان لا يفرق علي أرضه بين مواطن ومواطن لاختلاف في العرق أو الجنس أو الدين أو اللون. ودعنا لا نحاول اطفاء الفرحة أو سرقتها أو التقليل منها لأن الحدث يستحق فرحة حقيقية، ولكن دعنا ايضا نحاول تلمس الواقع وتلمس المستقبل من خلال المعطيات المتواجدة بالفعل علي الساحة وحتي تكون الفرحة حقيقية ومتصلة وحتي لا يمكن لأحد أن يجهض الحلم الجميل. ودعنا نقل بداية أن اتفاق نيفاشا الذي وضع أسس التوافق الأخير وأوقف نزيف الحرب الأهلية ما كان ممن الممكن أن يتحقق قبل الانشقاق الذي حدث في السلطة التي كانت تحكم في الخرطوم وانفصال حسن الترابي رئيس حزب المؤتمر الشعبي (الاخوان المسلمون في السودان) والذي انشق علي حزب المؤتمر الوطني الذي مازال يحكم. وطوال أكثر من عقد من الزمان خاصة في التسعينيات، كان حسن الترابي هو العقل المفكر والمدبر لسياسات السودان الرسمية، وظل يرفض كل المحاولات الداخلية والخارجية التي بذلت لوضع حد لنزيف الحرب الأهلية، بل وفرض سيطرة مطلقة علي أجهزة الحكم التي ظلت ترفع شعار تطبيق الشريعة الاسلامية علي جميع الأراضي السودانية في الشمال والجنوب والشرق والغرب حتي ولو أدي الأمر إلي انفصال الجنوب المسيحي! وكانت سياسة الترابي في تلك الفترة سببا رئيسياً في اقصاء ونفي كل القوي السياسية السودانية من الساحة وملاحقتها أمنيا وابتداء من حزب الأمة والحزب الاتحادي حتي الحزب الشيوعي والحركة الشعبية بزعامة جون جارانج، وجعل من السودان مقرا رسميا للحركة الارهابية ومركزا لتدريب المجاهدين من بن لادن والظواهري اللذين أقاما في السودان في فترة التسعينيات وحتي بعض رموز الارهاب الديني الأخري ولعلنا لا ننسي في تلك الفترة المحاولة الآئمة التي دبرتها وخططتها القوي الارهابية في الخرطوم لاغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا اثناء انعقاد القمة الافريقية. ولم يكن من الممكن عقد اتفاق نيفاشا قبل ان يدرك النظام الحاكم أو جناح الرئيس حسن البشير بضرورة التخلص من سيطرة الترابي وجماعته علي الحكم بعد أن أصبح السودان وأمنه واستقلاله معرضا للخطر وبعد أن تعرض لمخاطر حقيقية ليس فقط من جانب القوي السياسية الداخلية المعارضة، بل وايضا من قبل المجتمع الدولي خاصة بعد ان تحول السودان إلي قوي جاذبة وجامعة لفصائل الارهاب التي تتستر وراء شعارات دينية. واتفاق نيفاشا الذي وضع الأسس لبناء أو اعادة بناء السلطة السودانية وعلي أساس ديمقراطي لمرحلة انتقالية تمتد لست سنوات قسم السلطة من القوي المختلفة جغرافيا واجتماعيا فقد أعطي لحزب المؤتمر الحاكم حوالي 50% من مقاعد السلطة: الوزارة والاجهزة والجيش والبوليس والحركة الشعبية بزعامة جون جارانج حوالي 35% وقوي المعارضة الاخري حوالي 15%. ورغم تحفظ قوي التجمع الوطني الديمقراطي الذي ظل يمثل قوي المعارضة لحكومة الترابي - البشير طوال العقد الماضي علي النسب التي تم علي أساسها تقسيم السلطة المؤقتة، إلا أن كثيرا من هذا القوي تأمل من خلال عملية المصالحة الشاملة والواسعة والدستور المؤقت واقترابها من جون جارانج زعيم الحركة الشعبية والذي كان عضوا مؤسسا في التجمع الوطني الديمقراطي تعديل ميزان القوي داخل السلطة. ولكن ورغم ذلك فمازالت هناك الغام علي الطريق يمكن لها أن تعطل عملية التطور الديمقراطي في السودان بل يمكن لها لو تركت بدون تفكيك ان تفجر الموقف كله ليعود السودان وشعبه إلي نقطة الصفر من جديد. فهناك حسن الترابي رئيس حزب المؤتمر الشعبي (الاخوان في السودان) والذي مازال له نفوذ قوي داخل الأجهزة وقد أعلن بعد خروجه من المعتقل في الاسابيع الماضية رفضه لاتفاق نيفاشا والأسس التي تم علي أرضيتها تقسيم السلطة في المرحلة الانتقالية، مؤكدا رفضه لأي دستور علماني يحاول استبعاد النص الخاص بتطبيق الشريعة علي جنوب السودان. وهناك الصادق المهدي وحزب الأمة والذي كان طوال العقد الماضي عضوا فاعلا في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض الذي أعلن معارضته لبعض نصوص اتفاقية نيفاشا وانفصل عن التجمع الوطني الديمقراطي ودخل في تحالف مع صهره اللدود حسن الترابي. والصادق المهدي يعلن موافقته علي وقف الحرب الأهلية ومبدأ تقسيم السلطة، ولكنه يري ان صيغة الحكم الانتقالي لا تقدم أرضية صالحة للاستمرار واقتراح عقد مؤتمر عام لكل القوي السودانية - بما في ذلك الترابي - لاعادة مناقشة بعض الأسس والقضايا العملية لتأمين الديمقراطية ووحدة الأراضي السودانية. ثم هناك أيضا قصة دارفور وتداعياتها وأمراء الحرب الممثلين في جماعات الجانجويد التي أعلنت عصيانها وتمردها حتي علي السلطة واستمرارها في عمليات الملاحقات العنصرية لبعض القبائل الافريقية. ثم هناك العقوبات التي مازالت مفروضة علي السودان والمحكمة الجنائية الدولية وخلافها مع الحكومة السودانية حول محاكمة مجرمي الحرب في دارفور، ثم والأهم من ذلك كله القوي المتربصة في الشمال والجنوب والتي تحركها عوامل دينية وقبلية وتحظي بدعم قوي خارجية لا يهمها وجود سودان ديمقراطي موحد. تحديات كثيرة ولكن المؤكد أن الشعب المصري له مصلحة لاشك فيها في دعم المعالجة السودانية واعادة بناء سودان جديد موحد وديمقراطي يمثل عمقا حقيقيا لأمن واستقرار شعب وادي النيل.