المهمة الأساسية للحركة الوطنية في هذه المرحلة من الزاوية الفكرية لليسار الاشتراكي العروبي - الديمقراطي، فإنا نقترح أن المهمة الانتقالية الرئيسية للحركة الوطنية -القومية التقدمية في مصر عقب ثورة 25 يناير، هي تهيئة المجتمع لإحداث التحول التنموي المجتمعي، في الإطار الشامل والمتكامل. يشمل "التحول التنموي" بهذا المعني مجالات ثلاثة للتنمية المجتمعية المتكاملة : أولها المجال السياسي ، فيما يسمي التنمية السياسية. والحق أن مصطلح "التنمية السياسية" قد تم صكه في الأصل من قبل بعض أعلام الفكر السياسي الغربي عامة ، والأمريكي خاصة، انطلاقاً من تسليم ضمني بتفوق نموذج الممارسة السياسية الغربي، القائم علي التعددية السياسية و الحزبية، وتبادل السلطة بين أيدي القوي المهيمنة علي الحياة السياسية في المجتمع الرأسمالي. ويتبع ذلك أن البلدان الموسومة ب "التخلف السياسي" في العالم الثالث السابق، مدعوّة للاقتداء بالنموذج النظامي للممارسة السياسية الغربية ، في مسمي خطّي سائر (إلي الأمام) باتجاه " الديمقراطية الغربية " الليبرالية " المعتبرة، صراحةً او ضمنا، تمثيلاً لخاتمة التطور السياسي للبشرية . وبرغم الدلالة ذات الطابع التراتبي - الاستعلائي، وربما "العنصري"، المصاحب لنشوء مفهوم "التنمية السياسية"، باتجاه مجتمعات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإننا نري أنه يمكن تكييف المفهوم في الظروف الراهنة ليناسب ما نراه من أهمية تهيئة المجتمع للتحول الديمقراطي الحقيقي، عبر الكفاح الاجتماعي الممتد زماناً ، والعميق محتوي، من أجل رفع الوزن النسبي للقوي والطبقات الاجتماعية العاملة. وبذلك يمكن أن تكتسب تلك الطبقات والقوي، من خلال الممارسة النضالية، القدرات الضرورية للمشاركة في السلطة السياسية ، بنيانيا وحركيا، بما يتكافأ مع وزنها العددي وقوتها الكيفية في سياق عملية الإنتاج الاجتماعي : بأن تتحول السلطة في المستقبل - البعيد - لتعكس عضوياً ، وتمثل مضمونياً ، قوي الغالبية الاجتماعية المنتجة .ولنتذكر هنا أن التقدم النسبي للمجتمعات الغربية باتجاه دفع عملية المشاركة السياسية للطبقات العاملة في هيكل ونشاط السلطة السياسية خلال القرن العشرين بالذات، إنما يعود الي تصاعد القوة النسبية التي اكتسبتها الغالبية الاجتماعية المنتجة، في سياق الحركة النقابية والسياسية، بما أهّلها لفرض حقوقها علي رأس بنود جدول أعمال البرجوازيات الحاكمة في الدول الغربية. فلم تكن، إذن ، مكتسبات النموذج الديمقراطي الغربي ، منّة ممنوحة من تلك البرجوازيات الحاكمة ، كما لم تكن جزءا أصيلاً من نماذج الممارسة السياسية الرأسمالية، وإنما هي محصلة توازنات القوي المجتمعية، كما تبلورت عبر الكفاح الاجتماعي متعدد المستويات والمضامين، والذي خاضته القوي العاملة والمنتجة عبر الثورات الغربية المتواصلة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ، وخاصة خلال موجات أو ثورات القرن التاسع عشر 1798-1848-1870 ، والموجات أو الثورات أو التطورات الفاصلة خلال القرن العشرين، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولي ، وما بعد الحرب العالمية الثانية. الكفاح الاجتماعي وليس التطور السياسي لمجتمعات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بدا من ذلك : فلن يتحقق ذلك التطور في الاتجاه الديمقراطي الشعبي الحقيقي إلا من خلال الكفاح الاجتماعي لرفع مستوي القدرات النضالية، مطلبياً وسياسياً، للعاملين اليدويين والذهنيين في المجتمع ، حتي تفرض وزنها علي تشكيل السلطة والعملية السياسية، بما يتكافأ مع أوزانها الحقيقية، في المستقبل البعيد . أما ما يمكن أن يشيعه الفكر المنسوب للتيار السياسي الليبرالي الراهن في الوطن العربي عموما، ومصر خصوصاً ، من أن الديمقراطية يمكن أن تتحقق بقفزة واسعة في الهواء، من خلال الآلية الانتخابية، والتمثيلية النيابية، عبر تداول معين للسلطة ، فإن ذلك لا يعدو كونه من قبيل الوهم الذي سرعان ما يتكشف عن " إعادة إنتاج" النموذج "التسلطي" مرة أخري، ومرات، من خلال تداول أو تناوب أو تبادل السلطة ، بين ذات الأيدي أو القوي الاجتماعية ، دون وقوع تطور نوعي يسمح بمشاركة متكافئة للغالبية الاجتماعية في تشكيل وإدارة السلطة والدولة . لذلك اذن، اعتبرنا أن " التنمية السياسية "، وفق ما ذكرنا ، أحد أضلاع المهمة الانتقالية الرئيسية لما بعد الثورة، أي مهمة " التحول التنموي المجتمعي " وأما المجال الثاني للتحول التنموي المجتمعي ، بعد مجال التنمية السياسية، فهو التنمية الاقتصادية، ونقصد بها إحداث تحول هيكلي مخطط أو موجّه في البنيان الاقتصادي والاجتماعي، باتجاه التصنيع الحقيقي والقضاء علي التفاوت في توزيع الدخول والثروات ،من خلال دور طليعي للدولة والقطاع العام، والتحكم المنهجي اجتماعيا في حركة "اقتصاد السوق" والقطاع الخاص الكبير، وأخيرا: تحقيق الاستقلالية الاقتصادية في مواجهة العالم المتقدم صناعيا، والقضاء، من ثم، علي " التبعية ". وليس هنا مجال التفصيل في هذه النقطة بالذات، فلها موقع آخر مخصوص، سنحاول العناية به في مقام قادم. المبادرة الشخصية والمجال الثالث هو إحداث تحول بنياني في هيكلية منظومة القيم الثقافية المسيطرة علي الحركة الاجتماعية والسلوك الفردي، بالانتقال من منظومة يحكمها " الفساد المعمم " إلي منظومة تحكمها الفاعلية الاجتماعية، والمبادرة الشخصية، ومقومات الهوية العروبية والإسلامية المؤتلفة مع المسيحية الشرقية عموماً، والقبطية المصرية خصوصاً . هذا، ويجري - ينبغي أنه يجري - التحول التنموي المثلث : سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ثقافياً ، علي القاعدة الوطنية والقومية الصلبة بما تستلزم من مواقف جذرية إزاء الأعداء التاريخيين للأمة العربية، انطلاقاً من أهمية مواجهة ثم تحييد النزوع العدواني للولايات المتحدةالأمريكية إزاء "المنطقة العربية - الإسلامية المركزية"، ومواجهة الوجود العدواني الصهيوني في فلسطين، وكذا مواجهة الحلفاء الاجتماعيين موضوعياً داخل الوطن العربي للنزوع العدواني الأمريكي وبعض مظاهرالوجود العدواني الصهيوني، فيما كان يطلق عليه إبان الحقبة الناصرية:"الرجعية العربية ".