منذ أكثر من عقدين، كان الحديث عن الأمن الغذائي المصري ومعدلات الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الاستراتيجية مثل القمح والزيت والذرة، هو المسيطر علي رؤي جميع الخبراء في القطاع الزراعي، وحتي خبراء الاقتصاد الزراعي، في حين لم يكن هناك أي ذكر لسلع مثل الأرز والسكر علي اعتبار أن مصر كانت من الدول المصدرة لهذه السلع، بل تتمتع فيها بميزات نسبية. وعلي مدار الثلاثين عاما الماضية كانت الحكومات المتعاقبة غالبا ما تتعهد بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح أو علي الأقل زيادة المساحة المزروعة بالقمح لتقليل الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك .كما كانت تعهداتهم تطول في الوقت نفسه التوسع في مساحة الحبوب الزيتية خاصة أن مصر منذ ثلاثين عاما لم تتعد نسبة إنتاجها من الزيوت 20 بالمائة من إجمالي الاحتياجات المصرية من الزيوت. لكن إذا كان ذلك الوضع منذ أكثر من ربع قرن فيما يتعلق ببعض السلع مثل القمح والذرة والزيوت وتعهدات بزيادة المساحات الزراعية من هذه السلع مطمئنا، خاصة فيما يتعلق ببعض السلع الأخري مثل الأرز والسكر التي كانت مصر تصدر كميات كبيرة منهما إلي دول العالم، فان الوضع الحالي يبعث علي القلق الشديد فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي بصفة عامة، والوضع الخاص بالسلع الاستراتيجية بصفة خاصة، في ظل التحول من دولة مصدرة لسلعتي الأرز والسكر إلي دولة مستوردة لهما. والأخطر من ذلك هو الوضع الحالي في ظل ثورة وتوقف عجلة الإنتاج ومظاهرات واحتجاجات فئوية..ألا يعد ذلك جرس إنذار فيما يتعلق بالأمن الغذائي المصري الذي يتزامن مع تهديدات جديدة للأمن المائي إحدي الركائز الأساسية التي يعتمد عليها الأمن الغذائي؟. خطر شديد في الحقيقة فان كل المؤشرات تؤكد أن مصر وزراعتها في خطر شديد في ظل الاهتمام في العقود الثلاثة الماضية برجال الأعمال ومشروعاتهم علي حساب الزراعة المصرية ، ففي الوقت الذي كان فية رجال الأعمال والصناعة يتنافسون فيما بينهم علي الحصول علي أراض لإقامه مشروعات صناعية، بل قدمت لهم العديد من التسهيلات لم تبد الحكومة أي اهتمام لمشروعات التنمية الزراعية بنفس القدر من التسهيلات، بل أدت تسهيلاتها إلي رجال الأعمال وسهولة الحصول علي ما يطلبونه من أراض إلي طمع البعض في التقدم للحصول علي أراض للاستثمار الزراعي سرعان ما قاموا بتحويلها إلي استثمار عقاري في ظل حالات الفوضي والمحسوبية والرشوة التي كانت تسيطر علي الجهاز الإداري للدولة، وخير دليل علي ذلك الأراضي الواقعة علي جانبي الطريق الصحراوي القاهرة - الإسكندرية، والتي تحولت إلي منتجعات، وكذلك أراضي العياط التي مازلت منظورة أمام القضاء. لقد أدي الاهتمام برجال الأعمال والمشروعات الصناعية علي حساب التنمية الزراعية إلي خلق معادلة جعلت الحكومات السابقة تضع الأمن الغذائي المصري رهن الأسواق الخارجية والأسعار العالمية والضغوط السياسية من جانب العديد من الدول الأجنبية، وفي الحقيقة فإن الحديث عن هذه التهديدات التي تواجه الأمن العذائي المصري ليست من وحي الخيال، لكن ربما تؤيدها الإحصائيات الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فيما يتعلق بالمساحة الزراعية والأراضي المستصلحة الجديدة وحالة الثبات أو الجمود التي تسيطر علي القطاع الزراعي في مصر من حيث الأراضي والإنتاج وحتي الاستثمارات السنوية التي يتم ضخها سنويا في هذا القطاع . تحذيرات لذلك لم يكن غريبا أن يجدد الخبراء تحذيراتهم من خطورة الوضع الحالي خلال المؤتمر الذي عقده الاسبوع الماضي المركز المصري للدراسات الاقتصادية بحضور د.جودة عبدالخالق، وزير التضامن والعدالة الاجتماعية، الذي اختصر القضية في أن إنتاج القمح في مصر يستفيد منه الحيوان مثلما يستفيد منه الإنسان في ظل عدم وجود صناعة أعلاف وارتفاع اسعارها. وتقول الإحصائيات الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إن مساحة الأراضي الزراعية في السنوات الأخيرة لم تتعد 8.5 فدان منها 6.5 مليون فدان أراض قديمة والباقي من الأراضي الجديدة أي أن مصر علي مدار أكثر من ربع قرن لم تضف أكثر من 1.9 مليون فدان من الأراضي المستصلحة. لكن في الوقت نفسه فان حالات التعدي علي الأراضي الزراعية ربما تفوق ذلك خاصة إذا علمنا أن إجمالي المساحات المستصلحة علي مدار ثلاثة عشر عاما وبالتحديد خلال الفترة من 1995إلي 2009 لم تتعد 600 ألف فدان بمتوسط سنوي لا يتعدي 46 إلف فدان سنويا. لكن في ظل محدودية المساحة تقول الإحصائيات إن مساحة القمح كانت عام 2002 حوالي 2.5 مليون فدان ارتفعت إلي 3.1 مليون فدان عام 2009 تنتج حوالي 8.5 مليون طن وبنجر السكر 154 ألف فدان تنتج 3.1 مليون طن بنجر الذي يستخدم في إنتاج سكر البنجر الي 3.1 تنتج 8.5 مليون، لكن ظلت مساحة قصب السكر ثابتة 323 ألف فدان تنتج 1.6 مليون طن، أما مساحة الأرز فقد ارتفعت من 1.5 مليون فدان تنتج 6.1 مليون طن شعير إلي 1.6 مليون فدان، وهي أعلي مساحة للأرز في مصر تنتج 7.2 مليون طن شعير، وبالنسبة للذرة بنوعيها الشامية والرفيعة لم تتغير كثيرا حيث وصلت إلي 2 مليون فدان تنتج 6.6 مليون طن. حالة القلق وفي الواقع فان حديث وزير التضامن والعدالة الاجتماعية ربما عكس أيضا حالة القلق علي الأمن الغذائي المصري، في ظل تلك الأوضاع عندما قال إن الحكومة خلال موسم التوريد العام الماضي قررت زيادة سعر التوريد بنسبة 25 بالمائة، وأعلي من الأسعار العالمية لتحفيز الفلاح علي زراعة القمح، مشيرا إلي أن ذلك أدي إلي ارتفاع معدلات التوريد إلي 2.6 مليون طن، مقارنة بحوالي 2.1 مليون طن في العام المناظر، وهذا دليل علي أن الحكومة إذا أولت اهتماما بالفلاح المصري وسوف يؤدي ذلك إلي زيادة الإنتاجية من كل المحاصيل الزراعية، لكن في المقابل لابد من العمل علي زيادة الاستثمار في القطاع الزراعي بدلا من تركيز الاستثمارات في القطاعات الصناعية فقط . قطاع الأعلاف وبحسب قول الوزير لابد من معالجة التشوهات الحادثة في الأسواق المصرية لأن عدم الاهتمام بقطاع الأعلاف الذي يشكل العماد الرئيسي للفلاح في تربية الماشية، وهذا يندرج تحت الدعوة الخاصة بزيادة الاستثمار في القطاع الزراعي سوف يؤدي إلي استمرار إهدار الدعم الموجه إلي القمح ، بل استخدامه علفا للحيوان حتي بعد تحويله إلي خبز مدعم . فالرغيف الذي نقدمه للمواطن بسعر خمسة قروش يكلف الدولة الآن 25 قرشا، وإذا قدم للحيوان فان تكلفته تصل إلي 35 قرشا. والآن لدينا 64 مليون مواطن مسجلين علي البطاقات التموينية غالبا يستخدمون العيش البلدي الذي يتم توريد قمحه الي المطاحن بسعر 400 جنيه للطن، في حين إن سعره الحقيقي يزيد علي 2500 جنيه ونقوم بتسليمه بسعر 162 جنيها إلي أصحاب المخابز. إذا السكوت علي التسيب في حلقات إنتاج العيش المدعوم يعد جريمة. ومن الأمور التي اعتبرها الوزير أيضا تشكل نوعا من الخطورة علي الأمن الغذائي المصري هو التحول الغريب في القطاع الريفي المصري، حيث إن كل المؤشرات تقول إن قطاع الريف المصري يكاد يكون متوقفا الآن عن إنتاج الخبز. تخيلوا أننا نشتري القمح من الفلاح ثم نعيده إليه في صورة خبز هذا يعد نوعا من إهدار الدعم الموجه إلي رغيف العيش من خلال تعدد الحلقات. فقر مائي لكن في إطار استعراض وضع الأمن الغذائي المصري قالت د.ماجدة قنديل إن هناك تحديات فيما يتعلق بمحدودية الأراضي الزراعية التي تستدعي الاهتمام بالسياسات الزراعية بهدف توفير وزيادة المساحة الزراعية، فالمؤشرات الرسمية للمنظمات الدولية تقول إن مصر تفقد 30 ألف فدان سنويا من الأراضي الخصبة نتيجة التعدي علي الأراضي الزراعية بالبناء بخلاف تفتت الحيازة الزراعية لدرجة أن 85 بالمائة من الحيازات الزراعية تقل مساحتها عن ثلاثة أفدنة وتقل الحيازة عن فدانين لنحو 50 بالمائة من المزارعين، وهذا بالطبع يجرنا إلي استهلاك المياه حيث لا يتعدي نصيب الفرد 600 متر مكعب من المياه سنويا ،وهو أقل من مستوي الفقر المائي الذي يبلغ ألف متر مكعب. ورغم هذا الوضع ارتفع الناتج الزراعي إلي 14 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي ومازال نصيب هذا القطاع مرتفعا من حيث التشغيل حيث يستوعب اكثر من 26.6 بالمائة من القوي العاملة مقارنة بالكهرباء مثلا التي يصل فيها المعدل الي .8 بالمائة و13.5 بالمائة في الصناعة التحويلية و7.9 بالمائة في قطاع التشييد والبناء ، في الوقت الذي لاتتعدي فيه الاستثمارات في القطاع الزراعي 2.9 بالمائة. قصور أداء الدولة لذلك لم تخف د.أمنية حلمي التي شاركت د.ماجدة قنديل البحث الخاص بالقطاع الزراعي في مصر "المؤشرات والتحديات" أن قصور أداء الدولة في مساندة القطاع الزراعي بل وضعف المخصصات المالية في الموازنة العامة للدولة لا يتسق مع الهدف الخاص بتحقيق العدالة الاجتماعية إذا علمنا إن الاستثمارات العامة في مجال الزراعة لاتمثل إلا 7 بالمائة من إجمالي الاستثمارات الكلية، وهو ما انعكس علي انخفاض الدعم للمنتجين الزراعيين الي 15 بالمائة من الدعم الكلي بالمقارنة بالدعم الخاص بالمستهلكين الذي يصل الي 22.5 بالمائة. الغريب أن ذلك يحدث في الوقت الذي تتزايد فيه حدة التحديات التي تواجه الريف نتيجة ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج حيث ارتفع سعر شيكارة السماد زنة 50 كيلو جراما من 37 جنيها إلي 150 جنيها خلال اقل من عام، وارتفاع أجور العمالة الزراعية بنسبة 25 بالمائة. انخفاض إنتاج الأرز وحول انعكاس الوضع الراهن علي أهم سلعتين وهما: الأرز والقمح فقد ذكرت د. أمنية حلمي أن هناك انخفاضا بنسبة 18بالمائة في إنتاج الأرز بالمقارنة بالعام الماضي، في الوقت الذي ينمو فيه الإنتاج بمعدلات أقل من الزيادة السكانية حتي وصل الأمر إلي عدم الوفاء باحتياجات الاستهلاك المحلي، ولأول مرة منذ عشر سنوات تعاني مصر من عدم الاكتفاء الذاتي من الأرز وهو ما أدي إلي ارتفاع أسعار تلك السلعة في السوق المحلي مع تزايد الطلب، لكنها تنخفض ببطء شديد اذا ما تراجع الطلب عليها الأمر الذي يؤدي إلي استمرار الآثار التضخمية. لكن يبدو أن حظر التصدير ربما أتي بنتيجة عكسية حيث ظهر ضعف العلاقة بين الأسعار العالمية والمحلية وادي السماح لمن يورد الأرز إلي الهيئة العامة للسلع التموينية بتصدير الكمية نفسها إلي تربح البعض من تجارة أذون التصدير علي حساب الفلاح المصري واحتكار البعض لأرز الشعير وتدني أنواع الأرز التمويني. أكبر مستورد للقمح أما بالنسبة للقمح فقد أصبحت مصر من أكبر مستوردي القمح في العالم باستيراد 10 ملايين طن، وباتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، بالإضافة إلي تدهور نسبة الاكتفاء الذاتي من هذه السلعة الاستراتيجية حتي أنها أصبحت أقل من 50 بالمائة، لذلك من المهم التأكيد علي الحوافز السعرية لتحفيز الإنتاج. وفي النهاية طالب بعض الخبراء بضرورة وضع آلية لمواجهة المخاطر والتقلبات السعرية من خلال تعزيز الأمن الغذائي المصري وإنشاء صندوق لموازنة الأسعار الزراعية وتقديم دعم مباشر إلي المزارعين شرط اتباع ممارسات زراعية سليمة من ري وتسميد.